الف: ماالنقد الأدبي؟
ب: المفهوم الحديث للنّقد الأدبي
ج: نشأة النّقد الأدبي الحديث
د: النّقد الأدبي المعاصر، قضاياه و اتّجاهاته
ه: مقاييس النّقد الأدبّي
و: مدارس التجديد و(مفهوم الأديب)
1- في القاموس المحيط ولسان العرب وغيرهما: النقد والتّنقاد والانتقاد تمييز الدّراهم وإخراج الزّيف منها، أنشدسيبويه:(1)
تنفي يداها الحصَي في كلّ هاجرةٍ
نفَي الدّراهم تنقادُ الصّياريف
و نقدتُ الدّراهَم وانتقدتها أخرجتُ منها الزَّيف فهذا المعني اللّغوي الأول يشير إلي أنّ المراد بالنقد التمييزبين الجيد والرّديء من الدّراهم والدنانير، وهذا يكون عن خبرة وفهم وموازنة ثمّ حكم سديد وهناك معني لغوي آخر يدلُّ عليه قولهم أيضا نقدتُ رأسَهُ باصبعي إذا ضربتُهُ ونقدت الجوزة أنقدها إذا ضربتهاوعلي ذلك يفسّر حديث أبي الدرداء أنّه قال: إن نقدتَ النّاسَ نقدوكَ وإن تركتهم تركوكَ معناه إن عبتَهم وَاغتبتهم قابلوك بمثله فالنقدهنا معناه العيب والثلم أو التجريح وضدّه الإطراء والتقريظ من قرّظ الجلد إذادبغه بالقرظ وأديم مقروظ إذا دُبغ أوطلي به وذلك انّما يكون للتحسين والتّجميل فالنقد للذّمّ والتقريظ للمدح والثناء. ومن المعاني التّي تستعمل فيه هذه المادّة لدغ الحيّة، وقبض الدّرراهم و أخذ الطائر الحبّ واحدة . وأمّا في الّلغات الأوروبيّة فإن كلمة Critique مشتّقة من الفعل اللّاتيني Krinemبمعني «يفصل» أو يميز وحين يميز الشي ء عن شي ء آخر، في تلك اللغات فإن معني هذا أنّه يؤكّد وجود شي ء يمكن تصنيفه مع نظيرة من الأشياء الّتي لها صفات متشابهة معه بدرجة قليلة أو كثيرة وهذا يظهر معنيً أوليا لكلمة نقد وهو تميز شيء عن نظيره ويمكننا إذا تتبعنا تطور كلمة«نقد» في القرن السادس عشر، سنجد أنّها ظهرت في بادي ء الأمر في المجال الفلسفي للدّلالة علي تصحيح الأخطاء النّحوية أو إعادة صياغة كل ماهو ضعيف في المؤلّفات الأدبيّة اليونانية ثمّ تطوّر ذلك المصطلح في القرنين السابع والثّامن عشر، واتّسعت حدوده حتّي شملت وصف وتذوق المؤلّفات الأدبيّة في وقت معا.
امّا في القرن الماضي، فقداستخدمه عدد من الكّتاب والمفكّرين بمعني الحكم أو تفسير الأثر الأدبي، ويمكن أن يشف هذا المعني من الدّراسات التي أجراها «تين» و«برونتير» وغيرهما من المفكّرين الذين أعطوا للنقد طابعا وضعيّا، نتيجة تأثّرهم بمناهج وقوانين العلوم الطبيعة التي ذاعت في ذلك القرن فالنظرة السريعة عبرالإتّجاهات المختلفة في ذلك القرن كفيلة بأن تطلعنا علي أن أغلب المفكرين كانوا علي الدّوام يستخدمون كلمة «نقد» متأثره بمنطق العلم الوضعي.
أمّا في هذا القرن حيث تطورت العلوم الإنسانية واللغوية، نجدأنها (أي كلمة نقد)، قدأستخدمت من قبل عدد من النقاد بمعني فهم الأثر الأدبي والبحث في دلالاته ومعاينه.
ولكن مِن المؤكد أن كلمة«نقد» لازالت تبدو كلمة غامضة، فهي تستخدم تارة بمعني معرفة الأثر والحكم عليه أو فهمه، وطورا آخر بمعني تفسيره...(2)
فهذه هي أهّم المعاني اللغويّة لمادّة النقد ولعلّها أو أكثرها ملائم لما يرادهنا من معني، فقد استعمل النقد في معني تعقّب الأدباء والفّنيين والعلماء والدّلالة عَلي أخطائهم وإذاعتها قصد التشهير أوالتعليم، وشاع هذا المعني في عصرنا هذا وصارت كلمة النقد إذا أطلقت فهم منها الثلب ونشر العيوب والمآخذ وقديما ألف أبوعبيد اللّه محمّدبن عمران المرزباني المتوفّي سنة 438 ه (كتاب الموشح) في مآخذ العلماء علي الشعراء ضمنه ماعيب علي الشعراء السابقين من لفظ أو معني أو وزن أو خروج علي المألوف من قوانين النحو والعروض والبيان، وشاع بجانب ذلك عندنا تقريظ الكتب والأشخاص والمذاهب السياسية والاجتماعية والآثار الفنيّة مما يعد اكثره رياءً ومجاملةً دون أن يكون له حظ حقيقي من الحّق والإنصاف فهذا الاستعمال له أصل لغوي كما رأيت وإن لم يكن هو المقصود المقرّر بين النّقاد المنصفين.
2- أمّا المعني اللغوي الأوّل فلعلّه أنسب المعاني وأليقها بالمراد من كلمة النقد في الإصطلاح الحديث من ناحية وفي اصطلاح اكثر المتقدّمين من ناحية أخري فإنّ فيه كما مرّمعني الفحص والموازنة والتمييز والحكم وإذا ما وقفنا عندما يقوله الثقات من النقاد رأيناهم لايجاوزون هذه المعاني من حدّ النقد وفي ذكرخواصّه ووظيفته، فالنّقد دراسة الأشياء وتفسيرها وتحليلها وموازتتها بغيرها المشابهة لها أو المقابلة، ثمّ الحكم عليها ببيان قيمتها ودرجتها، يجري هذا في الحّسيات والمعنوّيات وفي العلوم والفنون وفي كلّ شي ء متصّل بالحياة.(3)
وقد رأينا السّابقين الذّين كتبوا في النقد العربي أميل إلي حمل لفظ النّقد علي هذه المعاني المتواصلة، فنقد الشعر لقدامة ونقد النثر المنسوب له خطأ وكتاب العمدة لابن رشيق في صناعة العشر ونقده ثمّ ما يتّصل بذلك من كتب الموازنة، كلّها عبارة عن دراسة الشعر أو النثر وتفسيرهما وبيان عناصرهما وفنونهما ومايعرض لهما من أسباب الحسن أو القبح والتّنبيه علي الجيد المقبول والرّدي ء المنبوذ إلي نحو ذلك ممّا هو إيضاح وعرض ثمّ تفسير وموازنة ثمّ أحكام ونصائح أو قوانين نافعة في فنّ الأدب منظوما ومنثورا.
3- وهنا نستطيع أن نتقدّم قليلاً فنذكرما يقوله المحدثون في تعريف النقد فهو عندهم التقدير الصّحيح لأيّ أثر فنّي وبيان قيمته في ذاته ودرجته بالنّسبة إلي سواه والنقد الأدبي يختصّ بالأدب وحدّه وإن كانت طبيعة النقد واحدة أو تكاد، سواء أكان موضوعه أدبا أم تصويرا أم موسيقي(4)
فالنقد الأدبي في الاصطلاح هو تقدير النّصّ الأدبي تقديرا صحيحا وبيان قيمته ودرجته الأدبيّة ولإيضاح هذا التعريف وتحليله نستطيع أن نذكر بجانبه الملاحظات الآتية:
(1) يبدأ النقد وظيفته بعدالفراغ من إنشاء الأدب، فالنقد يفرض أن الأدب قد وجد فعلا ثمّ يتقدّم لفهمه وتفسيره وتحليله وتقديره ؛ والحكم عليه بهذه الملكة المهذّبة أو الملهمة الّتي تكون لملاحظاتها قيمة تمتازه وآثار محترمة أمّا القدرة علي إنشاء الأدب وتذوّقه فليس في مكنة النقد خلقها من العدم وإن كان يزيدها تهذيبا ومضاء علي أنّ هذه الملكات الثلاث إنشاء الأدب وقدرته ونقده قد توجد معا متجاورة متعاونة في نفس الأديب الموهوب.
(2) يدلّ هذا التعريف علي أنّ الغرض الأوّل من النقد الأدبي إنّما هو تقدير الأثر الأدبي ببيان قيمته في ذاته قياسا علي القواعد أو الخواصّ العامّة الّتي يمتازبه الأدب بمعناه العام أو الخاص وهو النوع التوضيحي الّذي يعيين علي الفهم الذّوق. وأمّا القول في درجته بالنّسبة لغيره فهو في منزلته الثانية ومثله في ذلك محاولة ترتيب الأدباء ترتيبا مدرّجا حسب كفاياتهم المتفاوتة أو وضع نظام الموازنة بين آثارهم المختلفة وهو النوع الترجيحي الذّي يعني بالمفاضلة بين الأدباء وذلك لكثرة الفروق الأساسية بين الشعراء والخطباء والكتاب و المؤلّفين وقلّما نجدمنهم طائفة بينها مشابهات تسمح بعقد هذه الموازنة التّي تحدّد براعاتهم المتقابلة فإذا سئلت عن جرير والفرزدق والأخطل أيّهم أشعر، فجوابك السّديد هو أن كلاً منهم أشعر معني ذلك أن كلاً منهم يفضل زميليه ببعض الصفات اللفظيّة أو المعنوّية أو الموضوعية في حين أنك قدلاتجد بينهم من وجوه الإتّفاق مايكفي لعقد موازنة صالحة، ومع ذلك فيستطيع كلّ إنسان أن يؤثّر ما يحبّه ويرفض ما عداه من آثارهما جميعا، وعلي النقد توضيح الميزات الجوهرية لتفوق كلّ شاعر، فيساعدنا بذلك علي تقدير كلّ منهم تقديرا أقوم وأهدي سبيلاً. (5)
(3) ومها تكن وظيفة النقد وغايته التي يعمل لتحقيقها فلابد للنّاقد أن يكون ثاقب النظر، سريع الخاطر، مهذّب الذوق،قادرا علي المشاركة العاطفية (التعاطف) مع الأديب والبراءة من المؤثّرات الّتي تفسد عليه أحكامه كمايمرّبك فيما بعد، وذلك كلّه فوق الثقافة الأدبية العلمية، والتمّرس بالأدب، ومعرفة أطواره التاريخيّة، وصلاته بالفنون الأخري، وحسن فهمه وتعمّقه، إلي أبعد غاية، ليتسّرله الإنصاف والحكم الصّحيح، وقداستطاع پوب (Pob) أن يرد المصادر الرئيسية التّي يستقي منها النقد إلي مراجع ثلاثة:(1) وهي فكرة الطبيعة (2) وفكرة آثار السلف (3) وفكرة العقل، ولابدّمن الرجوع إلي الثلاثة جميعا وليس معني هذا أنّ الأديب مُطالب بأن يكون موزعا بين هذه الثلاثة لأنّ سلطان كلّ من هذه المراجع مثبت لسطان سائرها فالواجب أولا أن نتبع الطبيعة ولكن لكي يتسنّي ذلك لابدّمن دراسة آثار القدماء، لأنّ القدماء كانوا علي وفاق مع الطبيعة، وليس هناك خلاف بين الطبيعة وبين الشعر القديم، ودراسة القدماء معناها دراسة الفنّ الأصيل الّذي ينطبق دائما علي العقل، وسيأتي إيضاح ذلك في أثناء الفصول الطويلة في كتب النّقد.
(4) وإذا كان موضوع الأدب هو الطّبيعه والإنسان، فإن موضوع النقد الأدبي هو الأدب نفسه أي الكلام المنثور أو المنظوم الّذي يصوّر العقل والشعور، يقصد إليه النقد شارحا، مُحَّلاً، معلّلاً، حاكما، يعين بذلك القّراء علي الفهم والتقدير، ويشير إلي أمثل الطرّق في التفكير والتصوير والتّعبير، وبذلك يأخذ بيدالأدب والأدباء والقرّاء الي خير السُبُل وأسمي الغايات والنقد يقوم علي ركنين مباشرين الناقد والمنقود ونكتفي هنا برأي ناقدين هما: رولان بارت وجولدمان.
يري رولان بارت: إن عمل النّاقد يتّسم بعدّة خصائص معيّنة، أهمّها تعقيل الأثر الأدبي تعقيلاً تامّا، اي النظر إليه وإلي وحداته أو عناصره علي ضوء مجموعة من المبادئ المنطقيّة.(6)
ويقول جولدمان: «إنّ النقدالأدبي أوّلاً وقبل كلّ شي ء هو الدراسة العلميّة للأثر وهذه الدّراسة تخصص علي أساس فهم وتفسير الأثر تفسيرا مماثلاً ويشرح لنا جولدمان المقصود بالتفسير المماثل، فيقول إنّهُ استخلاص المميزات الخاصّة للأثر المنبثقة من مجموعة علاقات منطقيّة وربطها بالملامح العامّة للبينات الكلية للمجتمع.
ب: المفهوم الحديث للنّقد الأدبّي
أخطر ما يتعرض له مفهوم النقد الحديث عندنا هوالفصل بين النقد بوصفه علّما من العلوم الإنسانيّة له نظريّاته وأسسه وبين النقدمن حيث التطبيق.
فمن الواضح ان هذه النظريات والأسس لا تتوحّدمع النتاج الأدبي بوصفه عملاً فرديا، فهي لم توجد ولم تتمّ متجرّدة من الأعمال الأدبيّة في مجموعها وملابساتها، ولكّنها نتيجة لعملّيات عقليّة تركيبية مبدؤها النظر الدّقيق والتأمّل العميق للنتاج الأدبي وثمرتها التقويم لهذه الأعمال في ضوء أجناسها الأدبيّة وتطورها العالمي. وإذن لا منافاة بين النقد نظرا وعملاً، بل لابّد من الجانب الأوّل ليثمر النقد ثمرته، بتقويم للعمل الأدبي، صادر عن نظريات تبيّن الملتقي العام للمعارف الجمالية واللغوية في تاريخ الفكر الإنساني وهي غير معزولة طبعا عن التجربة الأدبيّة، كما يزعم بعض أدعياء النقد وأعدائه الّذين ينعي علي أمثالهم جون استيورات ميل فيما قاله من قبل (عام 1831) هذا الرّجل نظريّ يقولها بعض النّاس ساخرين فتتحوّل الي نعت ظالم جديب، انّها كلمة تعبر في حقيقتها عن اسمي جهد للفكر الإنساني وانبله(7)
ويقوم جوهر النقد الأدبي اوّلاً علي الكشف عن جوانب النضج الفنّي في النتّاج الأدبي وتمييزها عمّا سواها علي طريق الشرح والتعليل ثمّ يأتي بعد ذلك الحكم العام عليها فلا قيمة للحكم علي العمل الأدبي وحده وان صيغ في عبارات طليّة طالما كانت تتردد محفوظة في تاريخ فكرنا النقدي القديم وقد يخطيء الناقد في الحكم، ولكنّه ينجح في ذكر مبررات وتعليلات تضفي علي نقدة قيمة فيسّمي ناقدا، بل قد يكون مع ذلك من اكبر النقاد، كما حدث للنّاقد العالمي سانت بوف في نقده لبعض معاصريه علي حين لا نعدّمن يصدر الأحكام علي العمل الأدبي دون تبرير فني ناقدا، وان أصاب اذما أشبهه حينئذٍ بالساعة الخربة تكون أضبط الساعات في وقت من الأوقات، ولكن لايلبث أن يتكشف زيفها في لحظات.
وأقدم صورة للنقد الأدبي نقد الكاتب أو الشاعرلما ينتجه ساعة خلقه لعمله يعتمدفي ذلك علي دربة ومران وسعة اطلاع وتقتصر اهميّة هذا النوع من النقد علي الخلق الأدبي. فكل كاتب كبير هو ناقد بالفعل أو بالقوة ولكن نقده قاصرعن مهمة التوجيه والشرح، وان استمر هذا النوع من النقد مصاحبا للخلق الأدبي في كلّ عصوره.
وغالبا مايكون النقد في مفهومه الحديث لاحقا للنتاج الأدبي لأنّه تقويم لشي ء سبق وجوده ولكن النقد الخالق قديدعوإلي نتايج جديد في سمائه وخصائصه فيسبق بالدّعوة مايدعواليه من أدب بعد افادته وتمثّل للأعمال الأدبيّة والتيارات الفكرّية العالمية، ليوفق بدعوته بين الأدب ومطالبه الجديدة في العصر وهذا النوع من النقد مألوف في العصور الحديثة لدي كبار الناقدين والمجدّدين من الكتاب وقد كان خاصّة العباقرة الذين دعوا إلي المذاهب الأدبية في مختلف العصور، فساعدوا علي أداء الأدب لرسالته، وأسهموا كثيرا في تجدّده مع ارساء دعواتهم(8) علي فلسفة جماليّة حديثة تضيف جديدا إلي ميراث الإنسانية ولاشكّ أنّ قصور الثقافة النقدية لدي اكثر كتابنا من ابرز الأسباب في تأخّر ادبنا ونقدنا معا في هذا العصر. وهذا ما يتخلف فيه هؤلاء الكتاب عن نظراتهم في الآداب العالمية الحديثة.
ج: نشأة النقد الأدبي الحديث
طبقا لما اتخذنا لأنفسنا من منهج، ولما عَرَّفْنَا به النقد الحديث، لن نعبا في نشأة النقد العربي بالأحكام العامّة التّي كان يصدرها الشعراء في القديم بعضهم علي بعض مع عدم التعليل لها، ممايروي بعضه في أسواق الجاهليّة إذا افترضنا صحّته، وكثيرمنه واضح الإنتحال ويلتحق بذلك ماكان يدور في نظير هذه الأسواق في العصر الإسلامي، كسوق المربد بالبصرة وكان التحكيم في النقد في هذه الأسواق وفي المربد ونظائرها قريب الشبّه بما كان من التحكيم المسرحي في الصعور اليونانية القديمة قبل نشوء النقد المنهجي عندهم، مما سبق أن قومناه من وجهة نظر نقد الحديث، ولعل خير ما يستدر ثمرات هذا الإتّجاه، ويستخلص منه أقصي غاية له، هو ما عبرالجا حظ حين نصح الكاتب والشاعر بالاحتكام إلي ذوق الصفوة من الجمهور والثقة في ذلك الذوق دون ضرورة التماس تعليل فني منه: « فاذا أردت أنْ تتكلّف هذه الصناعة وتُنْسَبَ إلي هذا الأدب، فقرضتَ قصيدة، أو حبَّرتَ خطبة، أو ألّفتَ رسالة فإيّاك أن تدعوك ثقتك بنفسك، أو يدعوك عُجبك بثمرة عقلك، إلي أن تنتحلَه وَتَّدعِيهُ ولكن اعرِضه علي العلماء في عُرْضِ رسائلَ أو أشعارٍ أو خطب، فإن رأيتَ الأسماعَ تصغِي له، والعُيونَ تَحدجُ اليه، ورأيتَ مَن يطلُبُه ويستحسنه، فانتحله، فإذا عاوِدت، (9) أمثال ذلك مرِارا فَوَجدْتَ الأسماعَ عنهُ منصرفة، والقلوب لاهية، فخذ في غير هذه الصناعة واجْعَل رائدك الذّي لايكذبكُ حرصهم عليه أو زهدهم فيه».(10)
ولمّا كان عهد النّهضة واتّصل الشرق بالغرب، وقف أبناء هذه البلاد علي أساليب الغرب في هذا الباب، وعرفوا أنّ النقد ذو أصول وطرق، وادركو اماله من أهميّة في توجيه الكتابة والتّأليف، وماله من أفضال علي نهضة الشعوب وكانت العلوم والفلسفة قد أدركت شوطا عظيما من التّقدم، والعقل قدوقف أمام الماضي موقف الشكّ وأمام الحاضر والمستقبل موقف التفّهم والكشف علي الاسرار الطّبيعة، وتعدّدت في هذا العهد وسائل التحرّي، ونشرت الطباعة ماكان مخبّا أوما كان في متناول العدد القليل من النّاس ونُبشت خزائن المخطوطات و هكذا كان لإتّصال الشرق بالغرب وبأساليبه التقليدية ولتخرّج الطلبة عَلي أساتذة توفّرلهم الذّوقُ الفنّي والثّقافية الأدبيّة الرّاقية ولقتدّم العلوم السيكولوجيّة والتّاريخية، ولا تّساع المجال لحرّية القول والكتابة ولا سيما بعدالحرب الكونيّة الأوُلي أثر بليغٌ في نشأة الرّوح النقديّة العصريّة عندأبناء الشّرق، فوثب النّقد وثبة عظمية وراح يجري علي مقاييس عقليّة وفلسفيّة، ويعتمد المنطق ومتقصّيا المعاني قبل المباني، متجرّدا من الأميال والأهواء الشخصيّة قدر المستطاع، لاينظر إلّا بعين العلم ليزن كلّ شي ء يميزانه(11)
فلّما كان العصر الحديث أخذالأدباء يثوبون إلي أنفسهم، بل قل أخذوا يتكشفونها من جديد استكشافا؛ وكان البارودي من أسبق شعرائنا إلي ذلك، بل كان إما مهم غيرمنازع، فقد صورنفسه وعصره وظروف قومه وثورتهم علي الخديوي إسماعيل وتوفيق وموقفهم من ذلك تصويرا رائعا ثمّ كان الإستعمار الغربي المشؤوم، فانبري شعرائنا مع الشعوب العربيّة يصارعونه وأخذوا يصوّرون متاعس هذه الشعوب وحرمانها من حقوقها السياسيّة والطّبيعيّة في العيش الكريم وبذلك انبثق في شعرنا لونان جديدان؛ هما الشعر السياسيّ الوطني والشعر الإجتماعي، علي نحوما هو معروف عن حافظ ابراهيم وأحمد شوقي وأضرابهما وظهر جيل جديد مِنَ الشباب في أوّل هذا القرن يستشعر في أعماقه نكبة الإحتلال ومايذوقُ المصريين من ظلم وعذاب، فاكتأب وقلق وصوَّرَ هذه الكآبة والقلق شعرا بديعا عبدالرحمن شكري وابراهيم عبدالقادر المازني وعبّاس العقاد وظلّ كُتابنا في مقالاتهم يناهضون المستعمر الغاشم وينازلونه، ولا أبالغ إذا قلت إنّ أقوي قوّة حاربنا بها الاستعمار في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن هي أقلام كتابنا من أمثال عبدالله نديم ومصطفي كامل ومحمّد فريد واضرابهم فقد جسموا بؤسنا السياسي والإجتماعي، واتّخذ محمّد المويلحي من أسلوب المقامات القديم إطارا لكتابه حديث عيسي بن هشام مصوّرا فيه أحوال مصر البائسة في أوائل القرن تصويرا ارائعا وظهرت القصّه بمعناها الفنّي الدّقيق، و يعرف القارئ عن قصّة زينب لمحمّد حسين هيكل وقدكتبها في أوائل العقد الثاني من هذا القرن، و ثُرنا علي المستعمرين الغاصبين في سنة 1919 م وسجل هذه الثّورة توفيق الحكيم قصصا بديعا في «عودة الروح» و نزل إلي ميدان الصحافة والكفاح السياسي اليومي هيكل والمازتي والعقّاد، ومازالو يصلون الإ تجليزنارا حامية من أقلامهم وكتاباتهم وغيرهم كثيرون اشتركوا معهم في هذا اكفاح العظيم.(12)
ومعني ذلك أن أدبنا رغم بروز العناصر التقليديّة فيه لم ينفصل عن حياتنا جملة في القديم والحديث وأن كثيرا من الأدباء كانوا يعدون أنفسهم مسئوولين أمام الضمير الشعبي، فهم يصدرون عنه فيما ينظمون ويكتبون ومانقوله عن مصر يجري علي غيرها من البلاد العربيّة؛ فليس هناك أدب في عصرنا لبلد عربي يعتزل حياة أهله ويعيش وراء قضبان الحياة الفردية الذاتية الخالصة (13)
د قضايا منهجيّة للنقد الأدبي وإتّجاهاته
لقد بدأ الإلتفات إلي ما يسمّي بمناهج النقد مع نهضة العلوم الطبيعيّة في القرن الماضي، وقداستطاع عدد من الباحثين والمفكرين أمثال تين Taine وبيرونتيير Brantiere وهنكان Hennequin ولانسون Lanson وغيرهم ممّن استعملوا خلال هذا العصر مناهج نقدّية ذات خصائص واتّجاهات متعدّدة متأثرة بمناهج العلوم الطبيعيّة فقد ازدادت الإهتمامات بمعالجة الظواهر الأدبيّة نظرا لما حدث فيها من تغييرات، نتيجة تحوّلات أعترت المجمتع والبنية الثقافية في ذلك العصر، وقدكان من مظاهر هذا التغيّر، تغير نظرة الباحثين والمفكرين في معالجة الظواهر الأدبيّة، فقد ظهرت الحاجة لديهم إلي الإستعانة بالمنهج الوضعي الّذي ارتبط بظروف هذه المرحلة بشكل مباشر. ولكي تتوافر هذه الأرضية التجربيّة للنقد الأدبي، أنكر بعض نقادالأدب، الإنجليزي والفرنسي الإتّجاه الأكاديمي الخالص في بداية القرن العشرين، ورفضوا الإتّجاهات النظرّية البحتة للدّراسات الأدبيّة، بهدف تحرير النقد من آثار الميتافيزيقا، وجعله يرتبط بالنظرة الوضعية بكيفيّة معيّنة ولذا رأوا أنّه من الضروريّ البدء بدراسة الظّواهر الأدبيّة المختلفة، وفق طبيعة مناهج العلوم الوضعيّة وذلك لكي يصبح النقد علما وضعيّا قائما بذاته ولعلّ هذا الإتّجاه قدأدّي إلي تكوين تباعدبين النقدمن جهة والفلسفة من جهة أُخري، وهذا التباعد أدي بلاشكٍ الي نقصٍ واضحٍ في مجال الدّراسات الأدبيّة والفنيّة، وفي ظلّ هذا الإتّجاه يودّالنقد الأدبي أن يصبح علما وضعيّا بعد أن ينفصل عن الفلسفة، ويتحرّرمن خضوعه للتيّار التّأمّلي الميتافيزيقي.(14)
ب - مدارس التجديد (ومفهوم الأدب) بعد عصر النّهضة
دَبَّت حركة النهضة بالتجديد في بداية الفترة الّتي حصل فيها الإحتكاك بين الشرق والغرب، بقصد الغزو للحصول علي موارد جديدة في بقاع جديدة، حيث ارتبطت حركة الغزو بحركة فكرية في مجالات الحياة المختلفة، ومنها الحركة الفكرية النقدية للأدب، فتشكّل نتيجة الواقع تياران للنقد الأدبي العربي.
الأوّل: محافظ وكان استمرارا للنقد العربي التقليدي القديم
والثاني: مُجَدِّد أفاد في نقده من معرفته للآداب الأروبيّة.
التيارالأوّل (التقليدي):
كان هذا التيّار اكثر انتشارا وأقوي سلطانا، وكان يمثّله الشيخ حسين المرصفي في الوسيلة الأدبية حيث كان يلقي محاضراته علي أساس هذا التيّار علي طلّابه في دارالعلوم عند إنشائها (1870 م)
ونقدُ المرصفي ضمن هذا التيار في الوسيلة الأدبيّة يقوم علي موازنات لها ثوابت علي وفق النقد العربي القديم، من هذه الثوابت.
1- توجيه بعض النقدات دونما تقليد، معتمدا علي الذوق الخاصّ
2- العناية بالنقد اللّغوي كما كان عندالقدامي
3- مؤاخذة الشاعر في السرقة من حيث اللفظ والمعني لاسيّما إذاكان السابق أصلح من اللّاحق
4- عدم استحسانه للبيت الذّي يكثرلفظه، ويقلّ معناه كبيت أبي فراس الحَمد انّي (طويل)
فما جازَهُ جُودٌ ولاحَلَّ دوُنَه
ولكنْ يَصيرُ الجودُ حَيثُ يَصيرُ
5- عنايته بجزئيات العمل الأدبي دونَ وحدته، وشاهد ذلك الأبيات المتناثرة من القصائد المختلفة الّتي كان ينقدها ونظر اليها منفصلةً عَمّا قبلها وعمّا بعدها.
6- تأكيده علي أن تكون القصيدة مترابطة الأجزاء متناسقة البناء لايقع منها بيت في غير موضعه.
7- إقراره بتباين شعرالشاعر الواحد بين الجودة والرداءة فهولا يري شعرالشاعر الواحد بمنزلة واحدة فقد يجوّد أحيانا وقد يَسِفُّ أحيانا أُخري.نلاحظ إذن اُنّ نقده فيه ملامح من التجديد، وان كان تقليدا لِمَن سبقه لَأنّ «الوسيلة» خلقت البارودي (محمود سامي 4190 م) وأحمد شوق (1932 م) وحافظ ابراهيم (1932 م) و غيرهم(15) (والظاهر أنّ الوسيلة الأدبيّة للمرصفي بما فيها من شعرالبارودي أنشأت أكثر من شوقي و حافظ(16)وقد استمّر هذا التيار النقدي حتي تخطي القرن التاسع عشر الي القرن العشرين مستغرقا النصف الأوّل منه.
التيار الثاني (التجديدي)
هذا التيار كان معاصرا للتيار المحافظ، وتميزعنه في أنّه أفادمن معرفة أُدبائه للآداب العالميّة كالآداب الاوروبيّة، والعثمانية، والفارسيّة، وغيرها.
وكان يهدف:
أوّلاً إلي تحرّر الشعر العربي من القيود القديمة.
ثانيا الي معالجة الموضوعات الّتي تهم هذا الشعر. ويتميّز هذا التيار بمايأتي:
1- الأخذ بالإنتقاص علي شعر المدح، وبدء القصائد بالغزل، فتري مثلاً أحمد فارس الشدّياق (1887 م) يتهكّم علي الشعر العربي، إذ يراه مغرقا بالمدح والتهاني في المناسبات
2- الدعوة إلي التخلّص من التقليد، والتمسك بالإلتزام، خاصّة التزام الصدق، ومراعاة أحوال العصر.
3- الدعوة إلي وضع النظريات الشعرية والخروج إلي المحيط العربي بالتخلّص من الذاتية والانطواء - بالتقاط الأحداث الّتي ألمّت بالأمّة العربيّة.
ويشمل هذا التيار مدارس التجديد وهي
1- المدرسة العراقية: وحملت شعلة النهوض والتجديد في موضوعات الشعر علي أيدي شعراء كثيرين منهم عبدالحسن الكاظمي (1935 م)، جميل صدقي الزهاوي (6193م)، معروف عبدالغني الرصافي (5419 م)، محمدرضا الشببي (5619م)، ومحمّد مهدي الجواهري (1997 م).
2- مدرسة المهجر الشمالي والجنوبي(17) وكان يمثلها الكثيرون من الأدباءمنهم جبران خليل جبران (1931 م)، إيليا أبوماضي،ميخائيل نعيمة، وعبدالمسيح حدّاد.
ج: مدرسة الديوان في مصر:
أنشأها مجموعة من الأدباء منهم أحمد شوقي (1932 م) والرافعي (مصطفي صادق 1937 م)، والمازني (ابراهيم عبدالقادر (9419 م) وعبدالرحمن شكري (1958 م)، والعقاد (عبّاس محمود 6419 م)
د مدرسة أبوللو في مصر وشمال أفريقا:(18)
شكلّها أدباء كثيرون من المغرب العربي ومشرقه منهم أحمد شوقي (1932 م) وخليل مطران (9419 م) وإبراهيم ناجي (1953م)، وأحمد زكي أبوشادي (1955 م) والشابي (أبوالقاسم) والسيّاب (بدرشاكر).
1- المدرسة العراقيّة «مدرسية التجديد».
كانت حركة الشعر في العراق أبرز الأنواع الأدبيّة تطوّرا إبتداءً ونشاطا حيث شكلت مدرسة جددت في المضامين مع كونها قرويةً ومتعةً لإشباع نفوس أصحابها. فقد وظّفت الشعر لخدمة الأمّة، وأرادمنه أن يتصدّي لحكم الطغاة والمستعمرين وكانت هذه المدرسة نفئات مصدورِ قبل الكاظمي، ثم صارت واضحة المعالم في شعره، فقد دعا الكاظمي (عبدالمحسن 5618 م 1935 م) إلي الوعي الوطني والقومي، ولمّ الشَمْلِ، ونفي من أجل ذلك من العراق إلي مصر، ثمّ واصل المسيرة من هناك حاثّا الشعب العراقي إلي ترصين تآلفه، فجعل للشعر هدفا ساميا، قال من قصيدته (سيروابنا مجزوء مضمر الكامل).
سيرو ابنا عَنَقا وشَدَّا
سيرواِبنا مَمْسيومَغْدي(19) سيروا نَذِبُّ عَنِ الحمِي ونَردُّ عَنَهُ المُسْتَبدّا
ثمّ تتابع جيلٌ واع من الشعر المعاصر للكاظمي، أو لاحق له في متقدّمتهم الزهاوي (جميل صدقي 6193 م) والرصافي (معروف عبدالغني 5419 م)، والشبيبي (محمدرضا 5619 م) وغيرهم.
ثمّ جاءت أجيال إقتفت أَثرهم وشاء القدر أن يعاصر الجواهري (محمّد مهدي 1977 م) كلّ هذه الأجيال ويطغي عليها في شعروطني وقومّي، وانسانيّ مُجّسَّد المعالم.
هؤلاء جميعا انتظم شعرهم المجتمع لأوطانهم، والأمّة، والحضارة الجديدة من مخترعات كالقطار والسيّارة والساعة والطيّارة والكهرباء ونظريّة دارون في أصل الأنواع، وقضيّة الشكّ واليقين عند ديكارت، علاوة علي المعركة، في السفور والحجاب، وتجديد الشعر والخلاصة من ذلك أنّهم أرادو للشعر مفهوما، ووظيفة، ومتعة، تخدم الفرد والمجمتع والأمة، وتعينها علي خروجها من(20) محنتها وتخلّفها، فالشعر في مفهوم الزهاوي (جميل صدقي 6193 م) يجب أن ينبعث من مشاعر قائله نزيها غير مقيّد، ينبعُ من مشاعرٍ صادقةٍ جريئة مدافعةٍ عن الحّقِ قال:
إنّما الشّعُر من القا
ئل لِلشّعر شُعُورْ
وبه مُعتكفٌ في
بَيتهِ وَهْوَ يَدوُرْ(21) (رمل)
والشعر له وظيفة مضافة إلي وظيفة التعبير عن المشاعر وهي (السَّلْوي) يلجأ إليها الشاعر ويلوذ بها لتحميه ممّا يري من مآسي المجمتع قال: (رمل)
أيّها الشعرُ سُلُويّ
أنت في ساعَةِ هَمِيّ
أدرءالأحزانَ عنّي
بأَبِي أنتَ وأُمِيّ(22)
وهو إبداع لأنّ عهد التقليد وَلّي، ولم يعدله مكانٌ في منازلِ الشّعرِ، حيث أنشد قائلاً (مُجتث):
الشِعرُ فيه هبُوطٌ
والشعر فيه طِلاعُ
ومنهُ تقليدُ مَنْ قَد
مَضي ومِنهُ (إقتراعُ)(23)
والشعر له مستويان، وخيرهمان ما كان دفاعا عن الحقّ قال (مجتثّ):
الشِعر ليسَ سواءً
مِنه سَمينٌ وغَثّْ
وأحْسَنُ الشعر ماكان
فيه للِحَقّ بَثّْ(24)
و الشعرُ في مفهوم الرّصافي (معروف عبدالغني 5419 م) وظيفته خدمة الوطن و الأمّة والإنسانيّة، إذيجب علي الشاعر أن يطرح واقع المجتمع، ويدافع عن الأمّة ويتصدّي للظلم وحكم الإستبداد،والإستعمار في تسبحٍ مبدع جديد، مروّحا عن هموم قائله:
عَلي أنّ لي طبعا لَبيِقا بِوَشْيِهِ
نزوعا إلي أَبكاره دوُن عيُونِهِ
لَعَمرُك إنّ الشعرَ صُمْصامُ حِكَمةٍ
وإنّ النُهي مَعْدودةٌ من قُيونِهِ(25)
والشعر في رأي الشبيبي (محمدرضا 5619 م) له أهداف، ومُثُلٌ، ومعان أشار إليها في قصائد كثيرة منها:(لامية العرب الجديدة) و(الهزار الشاعر) و (ذكري شاعر)و(الإجتماع والشعراء)
والشعر عنده له غاية تفصل بين الحّق والباطل، وتقصد إلي الصدق، وتنسكب في معاني ألفاظه روح الإبتكار والخلود، وتسيل بين نسيج أبياته مُتعةُ السِّحْرِ أمّا الجواهري؟ فهو لسان الشعب، والأمّة والإنسانيّة قال: (الكامل)
وأنا لسان الشَعب كلُّ بليّة
تأتيه أحمِلُ ثِقلها وأُصَوِّرُ
وإذا تقطّر من فُؤادي جانِبٌ
حَدُبَت عَلَّي قلوبه تتقطّرُ(26)
ثمّ نبعت مدرسة جديدة من المدرسة السابقة وانسلخت عنها، وأخذت علي عاتقها سنة 7419 م بعد الحرب العالميّة الثانية التغيير في الأشكال مع التطوير في المضامين إبتداءً في شعر بدر شاكر السيّاب ثمّ نازك الملائكة وآخرين فكان الشعر الحديث (المسمّي بالشعر الحرّ) مرحلة جديدة، ومدرسة سرعان ماانتشرت في جميع الأقطار العربيّة باعثة شعلة النهوض في الفكر العربي المعاصر حاملة أشكالها ومضامينها هذا المفهوم العام لرسالة المواطن انطلق منه مضمون الشعر الحديث، وقامت الدعوة فيه علي أساس من تسخير الشعر لخدمة الأغراض الإجتماعيّة والسياسية، والحضارية، وشجب دعوة الفن للفن، لأنّه ارتبط بالواقع، وجَنَّدَنفسه لهذا الواقع وخدمته وتطويره وطرح النقاد في ظلّه شعار الأدب الهادف، لتحديد مضمون هذا الشعر الجديد، فلم يعد الشاعر في حركة هذا الشعر يعيش بعيدا عن الشعب والأمّة بل اندفع بكلّ قواه يشارك في المعركة المصيّرية، ويلهب أَتّونهابشعره المنبعث من تجربة حيّة، تمرّس الشاعر معها بأوضاع الكفاح، وحَمَلَ منها شَرَرَ القضيّة التي يؤمن بها.
إذن يتميّزهذا الشعر الجديد بعودة الشاعر إلي الإرتباط بالحياة الإجتماعيّة والإقتصاديّة والسياسيّة.
وقد أضاف، سبيلاً جديدة إلي ما كان مألوفا للتعبير عن هذه الرسالة الوطنيّة أو القوميّة، وهذا السبيل هو الغزل والحب الممزوج بالحرمان فهذا بدرشاكرالسياب في أَغلب قصائده مثل (مطر... مطر) و(الأسلحة والأطفال) و غيرهما، يمزج هذا الحب والغزل بالقضايا الأساسية في رومانسية حالمة، فيلوّن صوره وينوعها ويبرزها في طرحٍ يصوّرفيه المجتمع العراقي، والظلم، و رفض أشكال الإستعمار.
2- مدرسة المهجر (ومفهوم الأدب):(27)
...القّت مدرسة المهجر في حركة التجديد مع مدرسة الديوان، ثم تخطّتها أشواطا في تجديد الشعر، وتحريره من الجمهود، وتطوير مضمونه، والخروج به عمّا عرف قديما من موضوعات.
وأضحي أثرها في توجيه الشعر قويّا وفاصلاً وكانت النماذج التي نسجها الشعر المهجري للوجدان قوّية التأثير في بعث روح الشعر بعد جموده حيثَ وجَّهت أفكارها إلي جوهره النَّقي، وشَقّت للشعر سبلاً لم يَعْهَدْها من قبل، علي أَنّها أخذت من التُّراث بحذر.
ومدرسة الديوان مقارنةً بمدرسة المهجر، محافظة، لأنّها أكثر إرتباطا بالتّراث، ولم تقطع الصّلة به، بل اعتمدت في معركتها مع التقليديين علي اطّلاع واسع من الشعر القديم، وتفاعل قوي مع الثقافة العربيّة بصفة عامّة ومع الثقافة الغربيّة بصفة خاصّة، في حين كانت مدرسة المهجر تعتمد أساسا علي الإلقاح الغربي، متعاملة في تفاعلها مع التراث العربي بقلّة وحذر. التجديد في الشعر المهجري تناول (الصياغة) و(المضمون) فسعي في (الصياغة) إلي التحرّر من الأشكال القديمة، وقصد البساطة في التعبير وتجنّب الزخرفة اللفظيّة، وجعل القيمة الإنسانية في الشعرأَعلي من القيمة اللسانية، وتخلّص من القوالب القديمة، وهدف إلي الأوزان الخفيفة، مع ميل إلي التنويع في الأوزان كما استغلّ أَساليب الموشّحات الأندلسيّة، وأَعطي اللفظة كلّ ما تحتاج إليه من الشاعرية في المعاني، والإشعاع الروحي مع لذّة السحر، وحلاوة الموسيقي، وعذوبة النطق، وجمال التصوير، وعبق التعبير، حيث جعل اللفظة حالمة ندية مفعمة بالجمال والأسي والحسرات.
أمّا المضامين؟ فقد كانت ثورة عارمة علي الأغراض التقليديّة القديمة داعية إلي استيماء النفس الإنسانيّة، متنعّمة علي الحياة منتظمة مايدور فيها من مشاكل الإنسان الإجتماعية والسياسية والإقتصاديّة.
اتسم شعرالمهجر، بومضات الغربة الرومانسية، والذاتية الفردية لأنّ الشاعر في الشعر المهجري حبيسٌ لوجدانه وذاته حتّي في حال اتصّاله بالشعور البشري العام.
فالشاعر هنا بصير بالأعماق الوجدانية مع تعدد نظراته للحياة،(28) وقد اختلفت هذه النظرة بإختلاف الشعراء إلّا أنّها كانت مشتركة في الذاتية الفردية عند الجميع.
إذن يتميّز أدب المهجر بالتجديد الطامح إلي الكمال، بخصائص قوية في أشكاله ومضامينه، تحرّر من سيطرة القديم في الأشكال بعد أن استوفي مالابدّمنه للصياغة الحديثة ونزعة التجديد والإنتقال من الإتباع إلي الإبداع والإعتداد بالشخصيّة الأدبيّة، لاجمود في القوالب الجاهزة، ولا ميوعة في المنابع المستحدثة نثرا أو شعرا.
قد انعتق النثر من المدلولات الثابتة، والرواسب القديمة، وانطلق الشعر بأصوات كثيرة متنوّعة، وأوزان قصيرة كما أسلفنا وموشّحات تتباري بالفن مع ما خَلَّفَتْهُ الأندلسُ.
3- مدرسة الديوان:(29)
كان نقد هذه المدرسة ينصب معظمه علي فنّ الشعر، لعراقته من جهة، ولعدم بروز الفنون الأخري من جهة ثانية، ونقدها أَغلبه نظري، وأقلّه تطبيقي و أعضاؤها كلّ منهم متأثّر بنظريّة غربيّة اتّخذها مَثَلاً له وأشهر مؤسّيسها: احمد شوقي (1932 م) والمازني (ابراهيم عبدالقادر9419 م) وعبدالرحمن شكري (1958 م)، والعقّاد (عبّاس محمود 6419 م) وغيرهم كثيرون وأهمّ مقاييسها:
1- الصدق: وهو التوافق بين شخصيّة الشاعر وشعره، ويقصدبه الصدق الفنّي الذّي يتضمّن صدق الشعور الذّي يعبّر عنه الشاعر ويصدر هذاالشعور منه عن مزاج أصيل لا تكلّف فيه وقد أوجب العّقاد علي الأديب التزام الحقيقة النفسية وليست الحقيقة المتجرّدة كما وضع كلّ من العقّاد والمزاني مقياسا لشعرالطبع يتلخّص في (صدقه وتأثيره) فإذا كان صادقا مؤثّرا، فهو مطبوع لا تكلّف فيه.
2- قوّة التعبير عن وجدان الأديب، فشعرالشخصيّة (الذاتية) الذّي أنتجه العقّاد والمازني هو من جوهر نظريتيمها القائل: (إنّ شعرالشخصيّة: تعبير عن وجدان الشاعر) وهو لفي قمّة الذاتية حيث يعبّرعن (أغوار) الوجدان للإنسان العربي، وتكون به (حياة الشاعر وفنه) متطابقين، (أي شيئا واحدا) لاينفصل أحدهما عن الآخر، بمعني لا ينفصل فيه الإنسان الحيّ عن الإنسان الناسج للنصّ.
3- الإعتراف بالتذوق الخاص (الشخصي): أعترف أَعضاء مدرسة الديوان بالذوق وسيلة أساسيّة في النقد، ولكنّهم اختلفوا في تفسير هذا الذوق، فعبد الرحمن شكري مثلاً لايُسَلّمُ للذّوق الخاص وحده بل يري أنَّ هناك ذوقا عاما يضاف للذوق الخاص يمكن أن يلتزم الجميع حدوده، فيقول عن الذّوق:
«اجتمع أعظم المصوّرين فصنع كلٌّ صورةً أَملاها عليه ذوقه، وزعم أَنّها بلغت غاية الجمال، إذا رأيتها، وَجَدْت إختلافا عظيما يَنَبِّي ءُ عن مثلِهِ في أذواق هؤلاء المصوّرين، ورُبّما كان بين الرسوم ما يستمجه بعضهم علي أنّك لَو قُلتَ لهم ما يَسْتَحلّوُنَ من معاني الجمال، عَجبْتَ لإختلافهم فيما يعرضون عليك»(30)
أمّا العقاد والمازني، فمع إعرافهما بالذوق العام يميلان دائما إلي الذوق الخاصّ، ويعطيان له الأولوّية في مسائل النقد والنتاج الأدبي.
إنّ جماعة الديوان، النّقاد منهم يُقَوِّمونَ الجانب الفّني في العمل الأدبيّ من خلال انطباعاتهم الشخصيّة فهم في الحقيقة نُقّاد تأثريون.
4- الحرص علي التقويم: حرص أعضاء جماعة الديوان في نقدهم للنصوص الأدبيّة علي التقويم والتوجيه أكثر من حرصهم علي التفسير والتحليل وقديكون هذا الإتّجاه ممّا يتماشي مع طبيعة النقد الأدبي في تراثنا الأدبي.
إنّ الظروف التّي تولّي فيها أعضاء جماعة الديوان مهمّة النقد الأدبي، ساعدت دونما شكّ علي دفعهم نحو هذا الإتّجاه فهم في الواقع لم يكونوا نُقّادا فحسب وإنّما كانوا يخوضون معارك التجديد، وهم يثورون علي الكلاسيكيّة القديمة في النقد العربي القديم.
كما أنّ هؤلاء النقاد، قيّموا الأدب من خلال النظريّات الغربيّة التّي تأثّروابها، ونظروا إلي الأعمال الفنيّة كلّها من خلال مواقف فكريّة عامّة واحدة علي الرغم من خلافاتهم الفكريّة الأدبيّة فيما بينهم.
علاوة علي أنهم كما أسلفنا من قبل يهتمون بالتقويم ويهملون أحيانا التحليل والربط للنماذج بعضها مع بعض، ويحتفلون بإطلاق الأحكام العامّة، و الأحكام التّي تعكس أذوافهم الشخصيّة.
5- الإهتمام بالمضمون: إنّ الإهتمام بالنقد عندأعضاء جماعة الديوان يقوم أساسا علي العناية بالمضمون والإهتمام به أكثر من الشكل وهذا الذي دفعهم الي القول بأنّ كلّ كلامٍ لم يكن مصدره صحّة الادراك، وصدق النظر في استشفاف العلاقات، يكون هُراءً ولا محلّ له في الأدب إذن تغيرالحياة الفكريّة، والإطلّاع علي الأدب الغربي وفلسفته، وعوامل أخري كثيرة؛ دفع أعضاء جماعة الديوان إلي الإهتمام بالمضامين أكثر من الأشكال، فقد شُغِلت أذهانهم بالثقافة العلميّة والفلسفية، من أجل ذلك نزعوا إلي مزج العلم بالفلسفة مع الكثيرمن المناذج الأدبيّة.
6- النقد العلمي الفلسفي: كان العقّادُ أسبقَ من المازني وعبدالرحمن شكري إلي النقد العلمي الفلسفي فهو يري أَنَّ الشكري والمازني، (غَيَّرا) منهجيها في القراءة حيث إلتفتا إلي النقد العلمّي والفلسفي بعد أنَ كانت القراءة عندهما شاخصةً إلي النقد الأدبّي المحض علي أسلوب الغربيين من مثل (ماكولي) و(ماكس نوردو)و(المبروزو) و(السنج) و( نيشته)وغيرهم.
وقد كان أدباء الديوان هؤلاء يعتزون بأصولهم، وتراثهم التاريخي، فهذا خليل مطران يصف قلعة بعلبكَّ ويفخربها متذكّرا أيّام صباه في مدينته الّتي عاش فيها أيّام الصّبا بأحلامه وآماله وطموحه فيقول: (خفيف)
همّ فجر الحياة بالإدبار
فإذامَرَّ فهي في الآثار
والصّبا كالكري نعيمٌ ولكن
ينقضي والفتي به غيرُ دارٍ(31)
4- مدرسة أبولو:(32)
كان مؤسّس هذه المدرسة الشاعر المصري الدكتور أَحمدزكي أَبوشادي (1892 م 1955 م) وهي إمتداد لمدرسة الديوان، فقد تأثّرت بها، وانبعثت من خلال الصراع العنيف الذي داربين شعراء التقليد وشعراء هذه المدرسة ونقّادها، كانت مدرسة الديوان من قبل تهتم بصياغة النظريات التجديدّية أكثر من أهتمامها بصياغة النّص الشعري، وحينما جاءت مدرسة أبوللو عكست الأمر فاهتمت بصياغة النصّ الشعري أكثر من إهتمامها يصياغة النظريّات.(33)
مدرسة أبوللّو تيار نشأمنذوفاة سعدزغلول (1927 م) أو قبيل ذلك، وقد تميّز هذا التيار بشيئين مهمين: هما الوجدان الذاتي، والتعبير الرمزي.
بدأت هذه المدرسة ترسل شعرها غناء ذاتيا متفجّرا عن عواطف جياشة، ووجدان منفصل حزين وقد تطوّرت هذه المدرسة عندما صدر العدد الأوّل من مجلّة أَبوللّوفي (سبتمبر) سنة 1932 م حيث أُعلنت جميّعة تتألّف مَن أحمد شوقي (1932 م)رئيسا وخليل مطران وأحمد مُحَرَّم نائبين للرّئيس، والدكتور أحمد زكي أبوشادي (1955 م) سكرتيرا، وأعضاؤها: الدكتور إبراهيم ناجي (1935 م)، والدكتور علي العناني، وأحمد الشايب، وسيدابراهيم وعلي محمود طه (9419 م) ومحمود أبوالوفا، وحسن القاياني و حسن كامل الصيرفي(34) ثمّ جُدّد الإنتخاب سنة 1933 م، فأصبح خليل مطران رئيسا، وابراهيم ناجي وأحمد محرّم نابئين، للرّئيس، وأحمد زكي سكرتيرا، والبقيّة من الأدباء أعضاء ثمّ ضمّت هذه المدرسة الكثيرين من الشباب فيما بعد.
إنّ التجديد في نظر هؤلاء الشبّان في البداية، لم يكن معنيً كامنا في نفوسهم قاصدين إليه قصدا، بل كان خواطرومضات فنيّة، وفورات يعبرون عنها من خلال نتاجهم الشعري المتنوّع النزعات ومن خلال نظراتهم النقديّة فهم يدعون إلي الوحدة العضويّة للقصيدة؛ ويؤكّدون علي التحرّر البياني و الطلاقة الفنيّة ويستحثون الشخصيّة الأدبيّة علي الإبداع والإبتكار، وينهونها عن اجترار الماضي، ويريدون منها الإبتعاد عن الأغراض التقليدية، و الوفا وللعصر الذّي تعيش فيه بأن تعكس الحياة والطبيعة.
كانت الفكرة في نتاج هؤلاء الشعراء منسجمةً مع الخيال والشعور (العاطفة) حيث مزج أفراد هذه المدرسة بين الوجدان والعقل، فخرجت تجارُبُهُمْ مشرقةً متّسمة بطبع دقيق تتوهج فيه الرؤيا الشعريّة والإنفعال الحارّ، فانطلقت مضامينهم، واتّسعت للشعر الوجداني، وشعر الطبيعة الّتي إمتزج بها بصورته الصوفية الفلسفيّة، عن طريق الإيحاء الرمزي.
حاولت قوالب هذه المدرسة الإنفلات من أسراالتقليد والجمود، فنتوعت في القوا في والبحور، أحيانا، وتحررت من القوا في أحيانا أخري.
وجدّدت في الأشكال حيث ظهر في نتاجها أنواع من القصص والمسرحيّات الشعريّة إلي جانب الفيض الشعري وهي لم تكن مدفوعة بفطرتها إلي التجديد بل بادراكها الحاجة إلي التجديد بعد تناولها النتاج الشعريالسابق بالدرس والتحليل الناقد.
وكان أبوالقاسم الشابي يري:«أنّ المدرسة الجديدة تدعو إلي أن يحدّد الشاعر ماشاء من أسلوبه وطريقته في التفكير، والعاطفة، والخيال، وإلي أن يستلهم ما يشاء من كلّ هذا التراث المعنوي الّذي يشمل ما ادّخرته الإنسانيّة من فَنّ، وفلسفة ورأي، ودين، لافرق في ذلك بين ما كان منه عربيّا أو أجنبيا، وبالجملة، فانّها تدعوإلي حرّية الفّن من كلّ قيديمنعه الحركة والحياة».
ويمكن أن نلخّص عمليّة التجديد عند أصحاب هذه المدرسة في ثلاث نقاطٍ هي:
1- التجديد في البناء الفنّي
2- التجديد في البناء الدّاخلي.
3- الغاية الشعريّة (هدف الشعر)(35)
أوّلاً التجديد في البناء الفنّي الخارجيّ:
ويشمل أنواعاكثيرة منها:
1- التجديد في الألفاظ: فقد ابتكر شعراء أبوللّوفي الألفاظ، وَحَمَّلُوها دلالات تختلف عن دلالاتها القديمة، وقد أعانهم علي ذلك استخدام التعبير الرمزي لمثل هذه الألفاظ في كثيرمن المواقف فقد رأينا ألفاظ أصحاب هذه المدرسة شيقة في قصائدهم السحرية، مليئة بالأطياف والظلال، والسكون الشمسي، والعطر المفضض، والشفق السحري، والليل الأبيض، والنور الهادئ والخواطر المذعورة وكان أبوشادي من أوائل الذين أدخلوا هذه الألفاظ في شعرنا الحديث، وله قصائد كثيرة تحمل ألفاظ من مثل (بلوتو) و(برسفون) و(إيليا وصموئيل) و(ديوس) و(پودوبا).(36)
2- التجديد في العروض، ويمكن أن نلخصه في:
أ: ألشعر الحرّ (الحديث): وهو مالم يتقيّد بقافية، ولا بتوازن بين الشطرين
ب: الشعر المرسل: وهوما يلتزم فيه البحر الواحد مع تحرر من القافية
ج: الشعر المنثور: وهو ما لا يتقيّد بوزن ولا قافية
د: الشعر القصصي: وهو قصص تعتمد علي نقش شاعريّة، تتجاوب إيقاعاتها مع أعماق الإنسانية الداخليّة....
نستطيع أن نجمل التجديد الذي نادي به شعراء(أبوللّو) بمايأتي:
أ: ألألفاظ
ب: الشعر الحرّ
ج: الشعر المرسل
د: الشعر المنثور
ه: الشعر المترجم والمطولّات التأملّية
و: الشعر القصصي
ز: الشعر التمثيلي
ح: الشعر العلمي
غير أن هذه المحاولات التجديديّة في شعر أصحاب هذه المدرسة لم تكن بمستويً واحدٍ كما هي الحال عندمعاصريهم من شعراء القصيدة العموديّة.(37)
ه مقاييس النقد الأدبي
إذا كان النقد ضرورة من ضروريات الحياة لانستغني عنها مادامت تتطلّب التقدم ومحاولة البراءة من النقص والتخلّف فمن الطبيعي أن يتناول النقد جميع مقوّماتها العلميّة والفنيّة والإجتماعيّة والسياسيّة لعلّه يصلح ما فسد، ويعين علي الترّقي، ويهدي الباحثين والعاملين إلي أهدي السبل و أسمي الغايات لهذا اختلف النقد أو تعدّد بتعدّد نواحي الحياة فمنه
1- النقد السياسي الذّي يتّخذمقاييسه من أصول الحكم، والقوانين الدولية، والبراعة التّي تفيد الدّولة وتدعم سلطاتها داخليّا وبين الدّول جميعا.
2- ومنه النقد الإجتماعي الّذي يعتمد في كيانه علي تقاليد الأمّة، ومايسيرعليها حياتها،ويحمي أفرادها وأسرها وأخلاقها من الفساد والتدهور، وعلي جميع ما يرضي الكافّة، ويجعل الأفراد مهذّبين صالحين لمسايرة التقدّم والنّجاح
3- وهناك النقد العلمي المتّصل بالطبيعة والكيمياء والريّاضيّات ونحوها،(38)وهو خاضع لهذه المناهج النظريّة والتطبيقية (التّكنولوجيّة) التّي وضعت لكلّ علم، وإن كانت كلّها مشتركة في صحّة المقدّمات وسلامة التجارب ودقّة الإستنباط والتجرّد من الأشياء الذاتيّة، إذ كانت المسائل العلّمية ظاهرة عقليّة موضوعيّة تتناول الحياة، كما هي في الواقع دون أن يكون الذّوق أو المزاج فيها نصيبٌ.
4- وهناك النقد الفنّي، وهو كذلك خاضع لأصول عامّة تصلح للفنون الرفيعة كلّها من رسم وتصوير وادب وموسيقي ونحت من ذلك صدق التعبير، وقوّة التأثير وجمال الخيال ومراعاة التناسب، ومع ذلك فلكلّ فن منها مقاييسه النقديّة الخاصّة تبعا لطبيعته، و وسيلته في الأداء، وهي متأثرة حتما بالذاتية اي بهذا الذّوق الفنّي لكلّ ناقدولسنانريد هنا التوّرط في اصول النقد العلميّ ولا الفنيّ العام وإنّما أشرنا لنفرغ منها إلي النقد الأدبي خاصّة إذ كان نوعا من أنواع النقد يكون فنيّا أو مزيجا من العلم والفنّ كما يمرّتحقيق القول في ذلك.
الثاني: والنقد الأدبي خاصّ بالأدب، وإذا كنّا نفهمه بالمعني العام أي تفسير الأدب وايضاحه فنستطيع أن نعدّ من أنواعه مايلي:
اوّلاً: النقد التاريخي الذّي يشرح الصّلة بين الأدب والتاريخ فيتّخذ من حوادث التاريخ السياسي والإجتماعي وسيلة تفسير الأديب وتعليل ظواهره وخواصّه.
ثانيا: النقد الشخصي وهو الذّي يتّخذمن حياة الأدب وسيرته وسيلة لفهم آثاره وفنونه وخواصّه الغالبة عليه فإن الأدب صادر عنه مباشرة ليسهل بذلك شرحه وتعليل أوصافه.
ثالثا: النقد الفنّي وقد قلنا من قبل انّه أخّص الأنواع وأولاها بمن يريد فهم طبيعيّة الأدب وبيان عناصره، وأسباب جماله وقوته ورسم السبيل الصالحة للقراءة والإنشاء، وهو عندي أحقّ الأسماء بهذه التسمية، فهو النقد حقّا وماسواه من الطريقة التاريخيّة أو الشخصيّة تفسير، وإن كان بلاشكّ يعين عَلي صحّة النقد الفني وعلي سلامة أحكامه من الغموض والضلال وهو المنهج النقديّ
3- وإذا استتقصينا مظاهر النقد الأدبي في تاريخ الأدب العربي والفارسي وجدناها كثيرة منوّعة فنقد لفظي، واخر معنوي، وثالث موضوعي، ومن اللّفظي ما هو لغوي أو نحويّ أو عروضي أو بلاغي، ومن المعنوي ما يتصّل بابتكار المعاني أو تعميقها أو توليدها أو أخذها ثمّ ما يتصّل بالأخيلة وطرق تأليفها لتصوير العاطفة، ثمّ العاطفة الصّادقة والمصطنعة ومن الموضوعي ما يليق بكلّ مقام من المقال أو الفنّ الأدبيّ الخاص حتيّ غلواو حاولوا أن يقصروا الشعر علي فنون دون النثر و يمكنك الرجوع إلي ذلك كلّه في الموشّح للمرزباني، والصناعتين للعسكري والبيان والتبيين للجاحظ، والموازنة للآمدي، والوساطة للجرجاني، ودلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني وحدائق السّحر للرشيد الوطواط ولن تتّسع هذه الصفحات لايراد الأمثله لذلك فارجع إليها في مظانها المذكورة.
وفي عصرنا الحديث نشهد درجتين للنّقد الأدبي أو نوعين من أنواعه:
إحداهما الدّرجة السريعة وتتناول الآثار الأدبيّة، أو الفنيّة، التّي تقدم كلّ يوم إلي الصحف والمجلّات، وتعدّهذه الدّرجة نوعا من الإعلان أو الوصف يعتمد علي ملاحظات سريعة تعين القاري علي معرفة ما يصلح له من الكتب التيّ تصدرها المطبعة تباعا، ومع ذلك فيجب ألا يخلوهذا النقد من الجدّ وصحّة الحكم والإنصاف وترك المجاملة لئلّايضلّ القراء ويذهب بمكانة الصحفيّ الأديب والثّانية أسمي من الأولي وأبقي إذ كانت عاملاً من عوامل الرّقي ونشر الثقافة العامّة بين القرّاء، وتظهر في المجلّات المحترمة أو الكتب و تعمد علي الدّراسة العميقة(39)والثقافة العريضة، والتفكير الواضح السديد، والموازنة الشاملة وهي تنتهي في الغالب بعرض خلاصة كافية للآثار المنقودة أو بإكمال ما ينقصها، أو يفتح آفاق جديدة للبحث متصلة بموضوع الكتاب ويمكن هنا إجمال الأخطاء الّتي تندرج فيها هذه الطريقة حتيّ تصل غايتها إلي أن نفصلّها في حينها إن شاءاللّه.
فعلي الناقد أوّلاً: ألا يهمل هذه الجزئيّات اللغوية والنحويّة التي تعين علي فهم عقل الأديب وتاريخ أفكاره أثناء كتابه أو مقاله أو قصيدته أو قصّته وماانتهت إليه من نتائج وآراء و مذاهب وذلك يقتضيه أولاً تفهم المعاني الحقيقة التيّ تدلّ عليها عبارات بعناصرها الأصلية التيّ تسمي عمدة كالمتبد إوالخبر والفعل والفاعل أو بعناصرها الثانوية التي تسميّ فضلة كالحال والفاعيل وبعض المتعلّقات.
وثانيا: فهم المعاني المجازية أو التضمنيّة والإلتزامية التي تؤديّها العبارة بطريق الإستعارة والكناية أو تشيرإليها إذا كانت موجزة تكتفي بالإشارة والتلميح.
وثالثا: قيمة كلّ جملة في ايضاح المعاني، إذا كان بعض الجمل أساسيا يدلّ علي أصل المعني والبعض إيضاح أو تكرار وهذه الأخطاء علي جفائها تعدّ اساسا لازما للدّرجة السامية من درجات النقد الأدبيعلي أنّ الناقد مادام يصل بين هذه الملاحظات النحوية وبين المعاني والأفكار يشعربخفّة بحثه ومتعته. فإذا انتهي من ذلك واجه عمله الحقيقي الخطير الذّي يتجلّي في تعرّف الأثرالمنقود: كيف ظفر بخواصّه اللفظّية والمعنوية، وعلي أيّ شي ء يدلّ ممّاله صلة بعقل كاتبه وعواطفه وأخيلته ومزاجه ومواهبه وبيئته ومعارفه، فإذا بنا نحيامع الأديب ونري بعينه ونسمع بأذنه، ونخضع أنفسالميوله ونظريّاته وروحه، وننتقل من فهمه إلي فهم عصره وبيئته كلها، ثمّ نحسن الحكم والتقدير.(40)
فهرس المصادر والمآخذ
1- الأدب العربي الحديث (خفاجي) الجزء الثاني (مدرسة أبوللّو)
2- أصول النقد الأدبي تأليف أحمد الشائب الأستاذ بجامعة القاهرة مكتبة النهضة العربيّة سنة 1999 م
3- تاريخ النقد الأدبي عندالعرب الدكتور احسان عبّاس، دارالثقافة بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة 1241 ه 1992 م.
4- الجامع في تاريخ الأدب العربي، الأدب الحديث، تأليف حنّا الفاخوري دارالجيل، بيروت، لبنان، الطبعة الأولي 8619 م.
5- حافظ إبراهيم الدكتور عبدالحميد سندالجندي دارالمعارف ط - 2 - القاهرة 8619 م
6- في النقد الأدبي الدكتور شوقي ضيف دار المعارف بمصر الطبعة الثالثة سنة 2619 م
7- ديوان الخليل مطبعة دارالهلال مصر 9419 م.
8- ديوان الرصافي (معروف عبدالغني 6413 ه/ 5419 م) مطبعة الإستقامة، ط 6، القاهرة 1379ه
9- الشعروالشعراء في العراق أحمد أبوسعد دارالمعارف لبنان 1959 م
10- شوقي وقضايا العصر والحضارة الدكتور حلمي علي مرزوق دارالنهضة العربيّة بيروت 1981 م
11- المجموعة الشعرية الكاملة شاعر العرب الأكبر محمدمهدي الجواهري المجلد الأوّل والثاني دارالطليعة ط 1 بيروت 8619 و 9619 م.
12- محاولات في النقد والدراسات الأدبيّة الدكتور احسان عبّاس المجلّد الثالث دارالغرب الإسلامي 2000 م. بيروت، لبنان.
13- النقد الأدبي الحديث، تأليف الدكتور محمّد غنيمي هلال درالثقافة بيروت، لبنان، 1973م
41- النقد الأدبي الحديث تأليف الدكتور علي جابر المنصوري الأستاذ بجامعة بغداد دار عمّار، عمّان 1999 م
15- النقد الأدبي لأحمدامين القاهره 1952م
61- النقد الأدبي المعاصر، قضاياه واتّجاهاته - الدكتور سمير سعدحجازي دارالآفاق العربيّة، القاهرة 2141 ه 2001 م.
17- النقد المنهجي عندالعرب ومنهج البحث في الأدب واللّغة مترجم عن الأستاذين لانسمون وماييه الدكتور محمّد مندور، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، تاريخ النشر إبريل 6619 م.
18- البيان والتبين، الجاحظ، تحقيق وشرح عبدالسلام محمدهارون دارالجيل بيروت 1041 ه، 1990 م
الهوامش
1. أصول النقد الأدبي تأليف احمد الشايب، مكتبة النهضة المصريّة سنة 1999 ص 411 118 والنقد الأدبي لأحمد امين ص 1-3
2. النقد الأدبي المعاصر، قضاياه واتجاهاته الدكتور سمير سعد حجازي 2141 ه 2001 م ص
19-41
3. أصول النقد الأدبي 115-611
4. راجع أصول النقد الأدبي تأليف Winchcster، ص 1 و أصول البلاغة الأستاذ Genung
ص 591 والفصل الثاني من "فنون الأدب" لنشارلئن تعريب زكي نجيب محمود.
5. لاسل ايركرومني: قواعد النقد الأدبي، ترجمة محمد عوض ص 153 وأصول النقد الأدبي
ص 117
6. ايضا نفس المصدر ص 118، والنقد الأدبي المعاصر ص 15-61
7. النقد الأدبي الحديث تأليف الدكتور محمّد غنيمي هِلال دارالثقافة بيروت 1973 ص
11-62
8. أيضا نفس المصدر ص 12
9. النقد الأدبي الحديث ص 155-615
10. الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق وشرح عبدالسلام محمد هارون، ج1، ص 203
11. الجامع في تاريخ الأدب العربي، تأليف حنّا الفاخوري دارالجيل بيروت الطبعة الأولي
6198 م ص 63-04
12. في النقد الأدبي، بقلم الدكتور شوقي ضيف الطبعة الثالثة دارالمعارف بمصر ص
619-197
13. النقد الأدبي المعاصر الدكتور سمير سعد حجازي دارالآفاق العربيّة 2141 ه 2001 م ص
25
14. أنظر، حافظ إبراهيم (شاعرالنيل) الدكتور عبدالحميد الجندي دارالمعارف ط 2 مصر
8619 م (الوطنيات) 152-417 و (بين حافظ وشوقي) 193-218
15. شوقي أو صداقة اربعين عاما/100 والنقد الأدبي الحديث تأليف الدكتور علي جابر
المنصوري ص 74-51
16. نشأت في أمريكا الشمالية، والجنوبية، وكانت نتيجة طبيعية لهجرة هؤلاء الأدباء من جراء
الظروف الإقتصادية والسياسية في لبنان آنذاك
17. ايضا المصد رالسابق ص 50
18. الشعر والشعراء في العراق (1900 م 1958 م) أحمد أبوسعد دارالمعارف لبنان 1959 م
19. النقد الأدبّي الحديث / 52
20. ديوان الزهاوي / 229 نقلاً من النقد الأدبّي الحديث ص 52
21. المصدر نفسه/ 230. 22. المصدر نفسه / 23. 23. المصدر نفسه / 233 24. ديوان الرصافي، مطبعة الإستقامة،ط 6، القاهرة1379 ه نقلاً عن النقد الأدبي الحديث ص 53 25. المجموعة الشعريّة الكاملة: محمّد مهدي الجواهري، مطبعة دارالطليعة ط - بيروت 8619 م / 2 / 7-2 26. رفيق شاعرالوطن خليفة عمر التليسي ط 3 - مالطا 6197 م (الشعر الحديث) والقوافي، ص 25 - 30، والنقد الأدبي الحديث ص 58 16
27. القديم والجديد في الشعرالعربي الحديث الدكتور واصف أبوالشباب درالنهضة بيروت
841 ه / 1988 م الفصل الرابع (جماعة المهجر) 341-172
28. ديوان: صيغة فيعال من التدوين ومعناها: إنّ هؤلاء الشعراء دوّنوا شعرهم و كتاباتهم في كتاب
واحد سُمّي (الديوان). ثمّ انتقل هذا الإسم،إلي اتّجاه هؤلاء الشعراء في الشعر، ولمّا كان هذا الإتجاه بشكل مدرسة، سمّيت (مدرسة الديوان) ضَحّت كثيرا من الشعراء في مقدّمتهم عبدالرحمن شكري (1958 م) و عبّاس العّقاد (6419 م) والديوان أساسا كتاب ألّفه العّقاد (محمود عبّاس 6419 م)، والمازني (إبراهيم عبدالقادر 9419 م) و أو دفاعيه بعضا من شعر هما، وبعضا مما كتباه من مقالات نقدّيه. راجع الديوان عبّاسي محمودالعقّاد والمازكني، مطابع الشعب الطبعة الثاثقة القاهرة بلاتاريخ.
29. شوقي و قضايا العصر والحضارة الدكتور حلمي علي مرزوق درالنهضة العربيّة بيروت
1981 م / 361 ومابعدها
30. ديوان الخليل خليل مطران مطبعة درالهلال مصر 9419 م، / 97-100
31. أبوللّو: أساسا أحدآلهة اليونان، وكان لأحدقساوسته ابنة أسمها (كريزس CRYSIS) إختطفها القائد اليوناني (أجاممنون)، قغضب أبوللو ونشر الطاعون في الجيش اليوناني أثناء حرب طروادة في الإلياذة ثمّ سمّي هؤلاء الأدباء أوّل مجلّة لهم أصدروها بهذا لإسم ثمّ انتقل هذا الإسم ليصبح مصطلحا لمدرسة أدبيّة إحتوت نتاج مَن انتمي إليها فيما بعد مِن الأدباء.
32. ألقديم والجديد في الشعر العربي الحديث الدكتور واصف أبوالشباب (جماعة أبوللّو)، 12
241
33. المصدر السابق ص 121-241
34. الأدب العربي الحديث (خفاجي) الجزء الثاني (مدرسة أبوللّو) 4-3 والنقد الأدبي
الحديث ص 76-72
35. هذه الفاظ مستلة في أعلّبها من الأساطير القديمة، ومن الطبيعة من فضائها الخارجي
36. النقد الأدبي الحديث ص 70-71
37. أصول النقد الأدبي تأليف احمد الشائب ص 441-461 و النقد المنهجي عندالعرب الدكتور
محمدمند و ص 375-377
38. أصول النقد الأدبي ص 541
39. في النقد الأدبي للدكتور شوقي ضيف ص 31-33 و اصول النقد الأدبي ص 541-461
40. نفس المرجع ص 741-841
ب: المفهوم الحديث للنّقد الأدبي
ج: نشأة النّقد الأدبي الحديث
د: النّقد الأدبي المعاصر، قضاياه و اتّجاهاته
ه: مقاييس النّقد الأدبّي
و: مدارس التجديد و(مفهوم الأديب)
1- في القاموس المحيط ولسان العرب وغيرهما: النقد والتّنقاد والانتقاد تمييز الدّراهم وإخراج الزّيف منها، أنشدسيبويه:(1)
تنفي يداها الحصَي في كلّ هاجرةٍ
نفَي الدّراهم تنقادُ الصّياريف
و نقدتُ الدّراهَم وانتقدتها أخرجتُ منها الزَّيف فهذا المعني اللّغوي الأول يشير إلي أنّ المراد بالنقد التمييزبين الجيد والرّديء من الدّراهم والدنانير، وهذا يكون عن خبرة وفهم وموازنة ثمّ حكم سديد وهناك معني لغوي آخر يدلُّ عليه قولهم أيضا نقدتُ رأسَهُ باصبعي إذا ضربتُهُ ونقدت الجوزة أنقدها إذا ضربتهاوعلي ذلك يفسّر حديث أبي الدرداء أنّه قال: إن نقدتَ النّاسَ نقدوكَ وإن تركتهم تركوكَ معناه إن عبتَهم وَاغتبتهم قابلوك بمثله فالنقدهنا معناه العيب والثلم أو التجريح وضدّه الإطراء والتقريظ من قرّظ الجلد إذادبغه بالقرظ وأديم مقروظ إذا دُبغ أوطلي به وذلك انّما يكون للتحسين والتّجميل فالنقد للذّمّ والتقريظ للمدح والثناء. ومن المعاني التّي تستعمل فيه هذه المادّة لدغ الحيّة، وقبض الدّرراهم و أخذ الطائر الحبّ واحدة . وأمّا في الّلغات الأوروبيّة فإن كلمة Critique مشتّقة من الفعل اللّاتيني Krinemبمعني «يفصل» أو يميز وحين يميز الشي ء عن شي ء آخر، في تلك اللغات فإن معني هذا أنّه يؤكّد وجود شي ء يمكن تصنيفه مع نظيرة من الأشياء الّتي لها صفات متشابهة معه بدرجة قليلة أو كثيرة وهذا يظهر معنيً أوليا لكلمة نقد وهو تميز شيء عن نظيره ويمكننا إذا تتبعنا تطور كلمة«نقد» في القرن السادس عشر، سنجد أنّها ظهرت في بادي ء الأمر في المجال الفلسفي للدّلالة علي تصحيح الأخطاء النّحوية أو إعادة صياغة كل ماهو ضعيف في المؤلّفات الأدبيّة اليونانية ثمّ تطوّر ذلك المصطلح في القرنين السابع والثّامن عشر، واتّسعت حدوده حتّي شملت وصف وتذوق المؤلّفات الأدبيّة في وقت معا.
امّا في القرن الماضي، فقداستخدمه عدد من الكّتاب والمفكّرين بمعني الحكم أو تفسير الأثر الأدبي، ويمكن أن يشف هذا المعني من الدّراسات التي أجراها «تين» و«برونتير» وغيرهما من المفكّرين الذين أعطوا للنقد طابعا وضعيّا، نتيجة تأثّرهم بمناهج وقوانين العلوم الطبيعة التي ذاعت في ذلك القرن فالنظرة السريعة عبرالإتّجاهات المختلفة في ذلك القرن كفيلة بأن تطلعنا علي أن أغلب المفكرين كانوا علي الدّوام يستخدمون كلمة «نقد» متأثره بمنطق العلم الوضعي.
أمّا في هذا القرن حيث تطورت العلوم الإنسانية واللغوية، نجدأنها (أي كلمة نقد)، قدأستخدمت من قبل عدد من النقاد بمعني فهم الأثر الأدبي والبحث في دلالاته ومعاينه.
ولكن مِن المؤكد أن كلمة«نقد» لازالت تبدو كلمة غامضة، فهي تستخدم تارة بمعني معرفة الأثر والحكم عليه أو فهمه، وطورا آخر بمعني تفسيره...(2)
فهذه هي أهّم المعاني اللغويّة لمادّة النقد ولعلّها أو أكثرها ملائم لما يرادهنا من معني، فقد استعمل النقد في معني تعقّب الأدباء والفّنيين والعلماء والدّلالة عَلي أخطائهم وإذاعتها قصد التشهير أوالتعليم، وشاع هذا المعني في عصرنا هذا وصارت كلمة النقد إذا أطلقت فهم منها الثلب ونشر العيوب والمآخذ وقديما ألف أبوعبيد اللّه محمّدبن عمران المرزباني المتوفّي سنة 438 ه (كتاب الموشح) في مآخذ العلماء علي الشعراء ضمنه ماعيب علي الشعراء السابقين من لفظ أو معني أو وزن أو خروج علي المألوف من قوانين النحو والعروض والبيان، وشاع بجانب ذلك عندنا تقريظ الكتب والأشخاص والمذاهب السياسية والاجتماعية والآثار الفنيّة مما يعد اكثره رياءً ومجاملةً دون أن يكون له حظ حقيقي من الحّق والإنصاف فهذا الاستعمال له أصل لغوي كما رأيت وإن لم يكن هو المقصود المقرّر بين النّقاد المنصفين.
2- أمّا المعني اللغوي الأوّل فلعلّه أنسب المعاني وأليقها بالمراد من كلمة النقد في الإصطلاح الحديث من ناحية وفي اصطلاح اكثر المتقدّمين من ناحية أخري فإنّ فيه كما مرّمعني الفحص والموازنة والتمييز والحكم وإذا ما وقفنا عندما يقوله الثقات من النقاد رأيناهم لايجاوزون هذه المعاني من حدّ النقد وفي ذكرخواصّه ووظيفته، فالنّقد دراسة الأشياء وتفسيرها وتحليلها وموازتتها بغيرها المشابهة لها أو المقابلة، ثمّ الحكم عليها ببيان قيمتها ودرجتها، يجري هذا في الحّسيات والمعنوّيات وفي العلوم والفنون وفي كلّ شي ء متصّل بالحياة.(3)
وقد رأينا السّابقين الذّين كتبوا في النقد العربي أميل إلي حمل لفظ النّقد علي هذه المعاني المتواصلة، فنقد الشعر لقدامة ونقد النثر المنسوب له خطأ وكتاب العمدة لابن رشيق في صناعة العشر ونقده ثمّ ما يتّصل بذلك من كتب الموازنة، كلّها عبارة عن دراسة الشعر أو النثر وتفسيرهما وبيان عناصرهما وفنونهما ومايعرض لهما من أسباب الحسن أو القبح والتّنبيه علي الجيد المقبول والرّدي ء المنبوذ إلي نحو ذلك ممّا هو إيضاح وعرض ثمّ تفسير وموازنة ثمّ أحكام ونصائح أو قوانين نافعة في فنّ الأدب منظوما ومنثورا.
3- وهنا نستطيع أن نتقدّم قليلاً فنذكرما يقوله المحدثون في تعريف النقد فهو عندهم التقدير الصّحيح لأيّ أثر فنّي وبيان قيمته في ذاته ودرجته بالنّسبة إلي سواه والنقد الأدبي يختصّ بالأدب وحدّه وإن كانت طبيعة النقد واحدة أو تكاد، سواء أكان موضوعه أدبا أم تصويرا أم موسيقي(4)
فالنقد الأدبي في الاصطلاح هو تقدير النّصّ الأدبي تقديرا صحيحا وبيان قيمته ودرجته الأدبيّة ولإيضاح هذا التعريف وتحليله نستطيع أن نذكر بجانبه الملاحظات الآتية:
(1) يبدأ النقد وظيفته بعدالفراغ من إنشاء الأدب، فالنقد يفرض أن الأدب قد وجد فعلا ثمّ يتقدّم لفهمه وتفسيره وتحليله وتقديره ؛ والحكم عليه بهذه الملكة المهذّبة أو الملهمة الّتي تكون لملاحظاتها قيمة تمتازه وآثار محترمة أمّا القدرة علي إنشاء الأدب وتذوّقه فليس في مكنة النقد خلقها من العدم وإن كان يزيدها تهذيبا ومضاء علي أنّ هذه الملكات الثلاث إنشاء الأدب وقدرته ونقده قد توجد معا متجاورة متعاونة في نفس الأديب الموهوب.
(2) يدلّ هذا التعريف علي أنّ الغرض الأوّل من النقد الأدبي إنّما هو تقدير الأثر الأدبي ببيان قيمته في ذاته قياسا علي القواعد أو الخواصّ العامّة الّتي يمتازبه الأدب بمعناه العام أو الخاص وهو النوع التوضيحي الّذي يعيين علي الفهم الذّوق. وأمّا القول في درجته بالنّسبة لغيره فهو في منزلته الثانية ومثله في ذلك محاولة ترتيب الأدباء ترتيبا مدرّجا حسب كفاياتهم المتفاوتة أو وضع نظام الموازنة بين آثارهم المختلفة وهو النوع الترجيحي الذّي يعني بالمفاضلة بين الأدباء وذلك لكثرة الفروق الأساسية بين الشعراء والخطباء والكتاب و المؤلّفين وقلّما نجدمنهم طائفة بينها مشابهات تسمح بعقد هذه الموازنة التّي تحدّد براعاتهم المتقابلة فإذا سئلت عن جرير والفرزدق والأخطل أيّهم أشعر، فجوابك السّديد هو أن كلاً منهم أشعر معني ذلك أن كلاً منهم يفضل زميليه ببعض الصفات اللفظيّة أو المعنوّية أو الموضوعية في حين أنك قدلاتجد بينهم من وجوه الإتّفاق مايكفي لعقد موازنة صالحة، ومع ذلك فيستطيع كلّ إنسان أن يؤثّر ما يحبّه ويرفض ما عداه من آثارهما جميعا، وعلي النقد توضيح الميزات الجوهرية لتفوق كلّ شاعر، فيساعدنا بذلك علي تقدير كلّ منهم تقديرا أقوم وأهدي سبيلاً. (5)
(3) ومها تكن وظيفة النقد وغايته التي يعمل لتحقيقها فلابد للنّاقد أن يكون ثاقب النظر، سريع الخاطر، مهذّب الذوق،قادرا علي المشاركة العاطفية (التعاطف) مع الأديب والبراءة من المؤثّرات الّتي تفسد عليه أحكامه كمايمرّبك فيما بعد، وذلك كلّه فوق الثقافة الأدبية العلمية، والتمّرس بالأدب، ومعرفة أطواره التاريخيّة، وصلاته بالفنون الأخري، وحسن فهمه وتعمّقه، إلي أبعد غاية، ليتسّرله الإنصاف والحكم الصّحيح، وقداستطاع پوب (Pob) أن يرد المصادر الرئيسية التّي يستقي منها النقد إلي مراجع ثلاثة:(1) وهي فكرة الطبيعة (2) وفكرة آثار السلف (3) وفكرة العقل، ولابدّمن الرجوع إلي الثلاثة جميعا وليس معني هذا أنّ الأديب مُطالب بأن يكون موزعا بين هذه الثلاثة لأنّ سلطان كلّ من هذه المراجع مثبت لسطان سائرها فالواجب أولا أن نتبع الطبيعة ولكن لكي يتسنّي ذلك لابدّمن دراسة آثار القدماء، لأنّ القدماء كانوا علي وفاق مع الطبيعة، وليس هناك خلاف بين الطبيعة وبين الشعر القديم، ودراسة القدماء معناها دراسة الفنّ الأصيل الّذي ينطبق دائما علي العقل، وسيأتي إيضاح ذلك في أثناء الفصول الطويلة في كتب النّقد.
(4) وإذا كان موضوع الأدب هو الطّبيعه والإنسان، فإن موضوع النقد الأدبي هو الأدب نفسه أي الكلام المنثور أو المنظوم الّذي يصوّر العقل والشعور، يقصد إليه النقد شارحا، مُحَّلاً، معلّلاً، حاكما، يعين بذلك القّراء علي الفهم والتقدير، ويشير إلي أمثل الطرّق في التفكير والتصوير والتّعبير، وبذلك يأخذ بيدالأدب والأدباء والقرّاء الي خير السُبُل وأسمي الغايات والنقد يقوم علي ركنين مباشرين الناقد والمنقود ونكتفي هنا برأي ناقدين هما: رولان بارت وجولدمان.
يري رولان بارت: إن عمل النّاقد يتّسم بعدّة خصائص معيّنة، أهمّها تعقيل الأثر الأدبي تعقيلاً تامّا، اي النظر إليه وإلي وحداته أو عناصره علي ضوء مجموعة من المبادئ المنطقيّة.(6)
ويقول جولدمان: «إنّ النقدالأدبي أوّلاً وقبل كلّ شي ء هو الدراسة العلميّة للأثر وهذه الدّراسة تخصص علي أساس فهم وتفسير الأثر تفسيرا مماثلاً ويشرح لنا جولدمان المقصود بالتفسير المماثل، فيقول إنّهُ استخلاص المميزات الخاصّة للأثر المنبثقة من مجموعة علاقات منطقيّة وربطها بالملامح العامّة للبينات الكلية للمجتمع.
ب: المفهوم الحديث للنّقد الأدبّي
أخطر ما يتعرض له مفهوم النقد الحديث عندنا هوالفصل بين النقد بوصفه علّما من العلوم الإنسانيّة له نظريّاته وأسسه وبين النقدمن حيث التطبيق.
فمن الواضح ان هذه النظريات والأسس لا تتوحّدمع النتاج الأدبي بوصفه عملاً فرديا، فهي لم توجد ولم تتمّ متجرّدة من الأعمال الأدبيّة في مجموعها وملابساتها، ولكّنها نتيجة لعملّيات عقليّة تركيبية مبدؤها النظر الدّقيق والتأمّل العميق للنتاج الأدبي وثمرتها التقويم لهذه الأعمال في ضوء أجناسها الأدبيّة وتطورها العالمي. وإذن لا منافاة بين النقد نظرا وعملاً، بل لابّد من الجانب الأوّل ليثمر النقد ثمرته، بتقويم للعمل الأدبي، صادر عن نظريات تبيّن الملتقي العام للمعارف الجمالية واللغوية في تاريخ الفكر الإنساني وهي غير معزولة طبعا عن التجربة الأدبيّة، كما يزعم بعض أدعياء النقد وأعدائه الّذين ينعي علي أمثالهم جون استيورات ميل فيما قاله من قبل (عام 1831) هذا الرّجل نظريّ يقولها بعض النّاس ساخرين فتتحوّل الي نعت ظالم جديب، انّها كلمة تعبر في حقيقتها عن اسمي جهد للفكر الإنساني وانبله(7)
ويقوم جوهر النقد الأدبي اوّلاً علي الكشف عن جوانب النضج الفنّي في النتّاج الأدبي وتمييزها عمّا سواها علي طريق الشرح والتعليل ثمّ يأتي بعد ذلك الحكم العام عليها فلا قيمة للحكم علي العمل الأدبي وحده وان صيغ في عبارات طليّة طالما كانت تتردد محفوظة في تاريخ فكرنا النقدي القديم وقد يخطيء الناقد في الحكم، ولكنّه ينجح في ذكر مبررات وتعليلات تضفي علي نقدة قيمة فيسّمي ناقدا، بل قد يكون مع ذلك من اكبر النقاد، كما حدث للنّاقد العالمي سانت بوف في نقده لبعض معاصريه علي حين لا نعدّمن يصدر الأحكام علي العمل الأدبي دون تبرير فني ناقدا، وان أصاب اذما أشبهه حينئذٍ بالساعة الخربة تكون أضبط الساعات في وقت من الأوقات، ولكن لايلبث أن يتكشف زيفها في لحظات.
وأقدم صورة للنقد الأدبي نقد الكاتب أو الشاعرلما ينتجه ساعة خلقه لعمله يعتمدفي ذلك علي دربة ومران وسعة اطلاع وتقتصر اهميّة هذا النوع من النقد علي الخلق الأدبي. فكل كاتب كبير هو ناقد بالفعل أو بالقوة ولكن نقده قاصرعن مهمة التوجيه والشرح، وان استمر هذا النوع من النقد مصاحبا للخلق الأدبي في كلّ عصوره.
وغالبا مايكون النقد في مفهومه الحديث لاحقا للنتاج الأدبي لأنّه تقويم لشي ء سبق وجوده ولكن النقد الخالق قديدعوإلي نتايج جديد في سمائه وخصائصه فيسبق بالدّعوة مايدعواليه من أدب بعد افادته وتمثّل للأعمال الأدبيّة والتيارات الفكرّية العالمية، ليوفق بدعوته بين الأدب ومطالبه الجديدة في العصر وهذا النوع من النقد مألوف في العصور الحديثة لدي كبار الناقدين والمجدّدين من الكتاب وقد كان خاصّة العباقرة الذين دعوا إلي المذاهب الأدبية في مختلف العصور، فساعدوا علي أداء الأدب لرسالته، وأسهموا كثيرا في تجدّده مع ارساء دعواتهم(8) علي فلسفة جماليّة حديثة تضيف جديدا إلي ميراث الإنسانية ولاشكّ أنّ قصور الثقافة النقدية لدي اكثر كتابنا من ابرز الأسباب في تأخّر ادبنا ونقدنا معا في هذا العصر. وهذا ما يتخلف فيه هؤلاء الكتاب عن نظراتهم في الآداب العالمية الحديثة.
ج: نشأة النقد الأدبي الحديث
طبقا لما اتخذنا لأنفسنا من منهج، ولما عَرَّفْنَا به النقد الحديث، لن نعبا في نشأة النقد العربي بالأحكام العامّة التّي كان يصدرها الشعراء في القديم بعضهم علي بعض مع عدم التعليل لها، ممايروي بعضه في أسواق الجاهليّة إذا افترضنا صحّته، وكثيرمنه واضح الإنتحال ويلتحق بذلك ماكان يدور في نظير هذه الأسواق في العصر الإسلامي، كسوق المربد بالبصرة وكان التحكيم في النقد في هذه الأسواق وفي المربد ونظائرها قريب الشبّه بما كان من التحكيم المسرحي في الصعور اليونانية القديمة قبل نشوء النقد المنهجي عندهم، مما سبق أن قومناه من وجهة نظر نقد الحديث، ولعل خير ما يستدر ثمرات هذا الإتّجاه، ويستخلص منه أقصي غاية له، هو ما عبرالجا حظ حين نصح الكاتب والشاعر بالاحتكام إلي ذوق الصفوة من الجمهور والثقة في ذلك الذوق دون ضرورة التماس تعليل فني منه: « فاذا أردت أنْ تتكلّف هذه الصناعة وتُنْسَبَ إلي هذا الأدب، فقرضتَ قصيدة، أو حبَّرتَ خطبة، أو ألّفتَ رسالة فإيّاك أن تدعوك ثقتك بنفسك، أو يدعوك عُجبك بثمرة عقلك، إلي أن تنتحلَه وَتَّدعِيهُ ولكن اعرِضه علي العلماء في عُرْضِ رسائلَ أو أشعارٍ أو خطب، فإن رأيتَ الأسماعَ تصغِي له، والعُيونَ تَحدجُ اليه، ورأيتَ مَن يطلُبُه ويستحسنه، فانتحله، فإذا عاوِدت، (9) أمثال ذلك مرِارا فَوَجدْتَ الأسماعَ عنهُ منصرفة، والقلوب لاهية، فخذ في غير هذه الصناعة واجْعَل رائدك الذّي لايكذبكُ حرصهم عليه أو زهدهم فيه».(10)
ولمّا كان عهد النّهضة واتّصل الشرق بالغرب، وقف أبناء هذه البلاد علي أساليب الغرب في هذا الباب، وعرفوا أنّ النقد ذو أصول وطرق، وادركو اماله من أهميّة في توجيه الكتابة والتّأليف، وماله من أفضال علي نهضة الشعوب وكانت العلوم والفلسفة قد أدركت شوطا عظيما من التّقدم، والعقل قدوقف أمام الماضي موقف الشكّ وأمام الحاضر والمستقبل موقف التفّهم والكشف علي الاسرار الطّبيعة، وتعدّدت في هذا العهد وسائل التحرّي، ونشرت الطباعة ماكان مخبّا أوما كان في متناول العدد القليل من النّاس ونُبشت خزائن المخطوطات و هكذا كان لإتّصال الشرق بالغرب وبأساليبه التقليدية ولتخرّج الطلبة عَلي أساتذة توفّرلهم الذّوقُ الفنّي والثّقافية الأدبيّة الرّاقية ولقتدّم العلوم السيكولوجيّة والتّاريخية، ولا تّساع المجال لحرّية القول والكتابة ولا سيما بعدالحرب الكونيّة الأوُلي أثر بليغٌ في نشأة الرّوح النقديّة العصريّة عندأبناء الشّرق، فوثب النّقد وثبة عظمية وراح يجري علي مقاييس عقليّة وفلسفيّة، ويعتمد المنطق ومتقصّيا المعاني قبل المباني، متجرّدا من الأميال والأهواء الشخصيّة قدر المستطاع، لاينظر إلّا بعين العلم ليزن كلّ شي ء يميزانه(11)
فلّما كان العصر الحديث أخذالأدباء يثوبون إلي أنفسهم، بل قل أخذوا يتكشفونها من جديد استكشافا؛ وكان البارودي من أسبق شعرائنا إلي ذلك، بل كان إما مهم غيرمنازع، فقد صورنفسه وعصره وظروف قومه وثورتهم علي الخديوي إسماعيل وتوفيق وموقفهم من ذلك تصويرا رائعا ثمّ كان الإستعمار الغربي المشؤوم، فانبري شعرائنا مع الشعوب العربيّة يصارعونه وأخذوا يصوّرون متاعس هذه الشعوب وحرمانها من حقوقها السياسيّة والطّبيعيّة في العيش الكريم وبذلك انبثق في شعرنا لونان جديدان؛ هما الشعر السياسيّ الوطني والشعر الإجتماعي، علي نحوما هو معروف عن حافظ ابراهيم وأحمد شوقي وأضرابهما وظهر جيل جديد مِنَ الشباب في أوّل هذا القرن يستشعر في أعماقه نكبة الإحتلال ومايذوقُ المصريين من ظلم وعذاب، فاكتأب وقلق وصوَّرَ هذه الكآبة والقلق شعرا بديعا عبدالرحمن شكري وابراهيم عبدالقادر المازني وعبّاس العقاد وظلّ كُتابنا في مقالاتهم يناهضون المستعمر الغاشم وينازلونه، ولا أبالغ إذا قلت إنّ أقوي قوّة حاربنا بها الاستعمار في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن هي أقلام كتابنا من أمثال عبدالله نديم ومصطفي كامل ومحمّد فريد واضرابهم فقد جسموا بؤسنا السياسي والإجتماعي، واتّخذ محمّد المويلحي من أسلوب المقامات القديم إطارا لكتابه حديث عيسي بن هشام مصوّرا فيه أحوال مصر البائسة في أوائل القرن تصويرا ارائعا وظهرت القصّه بمعناها الفنّي الدّقيق، و يعرف القارئ عن قصّة زينب لمحمّد حسين هيكل وقدكتبها في أوائل العقد الثاني من هذا القرن، و ثُرنا علي المستعمرين الغاصبين في سنة 1919 م وسجل هذه الثّورة توفيق الحكيم قصصا بديعا في «عودة الروح» و نزل إلي ميدان الصحافة والكفاح السياسي اليومي هيكل والمازتي والعقّاد، ومازالو يصلون الإ تجليزنارا حامية من أقلامهم وكتاباتهم وغيرهم كثيرون اشتركوا معهم في هذا اكفاح العظيم.(12)
ومعني ذلك أن أدبنا رغم بروز العناصر التقليديّة فيه لم ينفصل عن حياتنا جملة في القديم والحديث وأن كثيرا من الأدباء كانوا يعدون أنفسهم مسئوولين أمام الضمير الشعبي، فهم يصدرون عنه فيما ينظمون ويكتبون ومانقوله عن مصر يجري علي غيرها من البلاد العربيّة؛ فليس هناك أدب في عصرنا لبلد عربي يعتزل حياة أهله ويعيش وراء قضبان الحياة الفردية الذاتية الخالصة (13)
د قضايا منهجيّة للنقد الأدبي وإتّجاهاته
لقد بدأ الإلتفات إلي ما يسمّي بمناهج النقد مع نهضة العلوم الطبيعيّة في القرن الماضي، وقداستطاع عدد من الباحثين والمفكرين أمثال تين Taine وبيرونتيير Brantiere وهنكان Hennequin ولانسون Lanson وغيرهم ممّن استعملوا خلال هذا العصر مناهج نقدّية ذات خصائص واتّجاهات متعدّدة متأثرة بمناهج العلوم الطبيعيّة فقد ازدادت الإهتمامات بمعالجة الظواهر الأدبيّة نظرا لما حدث فيها من تغييرات، نتيجة تحوّلات أعترت المجمتع والبنية الثقافية في ذلك العصر، وقدكان من مظاهر هذا التغيّر، تغير نظرة الباحثين والمفكرين في معالجة الظواهر الأدبيّة، فقد ظهرت الحاجة لديهم إلي الإستعانة بالمنهج الوضعي الّذي ارتبط بظروف هذه المرحلة بشكل مباشر. ولكي تتوافر هذه الأرضية التجربيّة للنقد الأدبي، أنكر بعض نقادالأدب، الإنجليزي والفرنسي الإتّجاه الأكاديمي الخالص في بداية القرن العشرين، ورفضوا الإتّجاهات النظرّية البحتة للدّراسات الأدبيّة، بهدف تحرير النقد من آثار الميتافيزيقا، وجعله يرتبط بالنظرة الوضعية بكيفيّة معيّنة ولذا رأوا أنّه من الضروريّ البدء بدراسة الظّواهر الأدبيّة المختلفة، وفق طبيعة مناهج العلوم الوضعيّة وذلك لكي يصبح النقد علما وضعيّا قائما بذاته ولعلّ هذا الإتّجاه قدأدّي إلي تكوين تباعدبين النقدمن جهة والفلسفة من جهة أُخري، وهذا التباعد أدي بلاشكٍ الي نقصٍ واضحٍ في مجال الدّراسات الأدبيّة والفنيّة، وفي ظلّ هذا الإتّجاه يودّالنقد الأدبي أن يصبح علما وضعيّا بعد أن ينفصل عن الفلسفة، ويتحرّرمن خضوعه للتيّار التّأمّلي الميتافيزيقي.(14)
ب - مدارس التجديد (ومفهوم الأدب) بعد عصر النّهضة
دَبَّت حركة النهضة بالتجديد في بداية الفترة الّتي حصل فيها الإحتكاك بين الشرق والغرب، بقصد الغزو للحصول علي موارد جديدة في بقاع جديدة، حيث ارتبطت حركة الغزو بحركة فكرية في مجالات الحياة المختلفة، ومنها الحركة الفكرية النقدية للأدب، فتشكّل نتيجة الواقع تياران للنقد الأدبي العربي.
الأوّل: محافظ وكان استمرارا للنقد العربي التقليدي القديم
والثاني: مُجَدِّد أفاد في نقده من معرفته للآداب الأروبيّة.
التيارالأوّل (التقليدي):
كان هذا التيّار اكثر انتشارا وأقوي سلطانا، وكان يمثّله الشيخ حسين المرصفي في الوسيلة الأدبية حيث كان يلقي محاضراته علي أساس هذا التيّار علي طلّابه في دارالعلوم عند إنشائها (1870 م)
ونقدُ المرصفي ضمن هذا التيار في الوسيلة الأدبيّة يقوم علي موازنات لها ثوابت علي وفق النقد العربي القديم، من هذه الثوابت.
1- توجيه بعض النقدات دونما تقليد، معتمدا علي الذوق الخاصّ
2- العناية بالنقد اللّغوي كما كان عندالقدامي
3- مؤاخذة الشاعر في السرقة من حيث اللفظ والمعني لاسيّما إذاكان السابق أصلح من اللّاحق
4- عدم استحسانه للبيت الذّي يكثرلفظه، ويقلّ معناه كبيت أبي فراس الحَمد انّي (طويل)
فما جازَهُ جُودٌ ولاحَلَّ دوُنَه
ولكنْ يَصيرُ الجودُ حَيثُ يَصيرُ
5- عنايته بجزئيات العمل الأدبي دونَ وحدته، وشاهد ذلك الأبيات المتناثرة من القصائد المختلفة الّتي كان ينقدها ونظر اليها منفصلةً عَمّا قبلها وعمّا بعدها.
6- تأكيده علي أن تكون القصيدة مترابطة الأجزاء متناسقة البناء لايقع منها بيت في غير موضعه.
7- إقراره بتباين شعرالشاعر الواحد بين الجودة والرداءة فهولا يري شعرالشاعر الواحد بمنزلة واحدة فقد يجوّد أحيانا وقد يَسِفُّ أحيانا أُخري.نلاحظ إذن اُنّ نقده فيه ملامح من التجديد، وان كان تقليدا لِمَن سبقه لَأنّ «الوسيلة» خلقت البارودي (محمود سامي 4190 م) وأحمد شوق (1932 م) وحافظ ابراهيم (1932 م) و غيرهم(15) (والظاهر أنّ الوسيلة الأدبيّة للمرصفي بما فيها من شعرالبارودي أنشأت أكثر من شوقي و حافظ(16)وقد استمّر هذا التيار النقدي حتي تخطي القرن التاسع عشر الي القرن العشرين مستغرقا النصف الأوّل منه.
التيار الثاني (التجديدي)
هذا التيار كان معاصرا للتيار المحافظ، وتميزعنه في أنّه أفادمن معرفة أُدبائه للآداب العالميّة كالآداب الاوروبيّة، والعثمانية، والفارسيّة، وغيرها.
وكان يهدف:
أوّلاً إلي تحرّر الشعر العربي من القيود القديمة.
ثانيا الي معالجة الموضوعات الّتي تهم هذا الشعر. ويتميّز هذا التيار بمايأتي:
1- الأخذ بالإنتقاص علي شعر المدح، وبدء القصائد بالغزل، فتري مثلاً أحمد فارس الشدّياق (1887 م) يتهكّم علي الشعر العربي، إذ يراه مغرقا بالمدح والتهاني في المناسبات
2- الدعوة إلي التخلّص من التقليد، والتمسك بالإلتزام، خاصّة التزام الصدق، ومراعاة أحوال العصر.
3- الدعوة إلي وضع النظريات الشعرية والخروج إلي المحيط العربي بالتخلّص من الذاتية والانطواء - بالتقاط الأحداث الّتي ألمّت بالأمّة العربيّة.
ويشمل هذا التيار مدارس التجديد وهي
1- المدرسة العراقية: وحملت شعلة النهوض والتجديد في موضوعات الشعر علي أيدي شعراء كثيرين منهم عبدالحسن الكاظمي (1935 م)، جميل صدقي الزهاوي (6193م)، معروف عبدالغني الرصافي (5419 م)، محمدرضا الشببي (5619م)، ومحمّد مهدي الجواهري (1997 م).
2- مدرسة المهجر الشمالي والجنوبي(17) وكان يمثلها الكثيرون من الأدباءمنهم جبران خليل جبران (1931 م)، إيليا أبوماضي،ميخائيل نعيمة، وعبدالمسيح حدّاد.
ج: مدرسة الديوان في مصر:
أنشأها مجموعة من الأدباء منهم أحمد شوقي (1932 م) والرافعي (مصطفي صادق 1937 م)، والمازني (ابراهيم عبدالقادر (9419 م) وعبدالرحمن شكري (1958 م)، والعقاد (عبّاس محمود 6419 م)
د مدرسة أبوللو في مصر وشمال أفريقا:(18)
شكلّها أدباء كثيرون من المغرب العربي ومشرقه منهم أحمد شوقي (1932 م) وخليل مطران (9419 م) وإبراهيم ناجي (1953م)، وأحمد زكي أبوشادي (1955 م) والشابي (أبوالقاسم) والسيّاب (بدرشاكر).
1- المدرسة العراقيّة «مدرسية التجديد».
كانت حركة الشعر في العراق أبرز الأنواع الأدبيّة تطوّرا إبتداءً ونشاطا حيث شكلت مدرسة جددت في المضامين مع كونها قرويةً ومتعةً لإشباع نفوس أصحابها. فقد وظّفت الشعر لخدمة الأمّة، وأرادمنه أن يتصدّي لحكم الطغاة والمستعمرين وكانت هذه المدرسة نفئات مصدورِ قبل الكاظمي، ثم صارت واضحة المعالم في شعره، فقد دعا الكاظمي (عبدالمحسن 5618 م 1935 م) إلي الوعي الوطني والقومي، ولمّ الشَمْلِ، ونفي من أجل ذلك من العراق إلي مصر، ثمّ واصل المسيرة من هناك حاثّا الشعب العراقي إلي ترصين تآلفه، فجعل للشعر هدفا ساميا، قال من قصيدته (سيروابنا مجزوء مضمر الكامل).
سيرو ابنا عَنَقا وشَدَّا
سيرواِبنا مَمْسيومَغْدي(19) سيروا نَذِبُّ عَنِ الحمِي ونَردُّ عَنَهُ المُسْتَبدّا
ثمّ تتابع جيلٌ واع من الشعر المعاصر للكاظمي، أو لاحق له في متقدّمتهم الزهاوي (جميل صدقي 6193 م) والرصافي (معروف عبدالغني 5419 م)، والشبيبي (محمدرضا 5619 م) وغيرهم.
ثمّ جاءت أجيال إقتفت أَثرهم وشاء القدر أن يعاصر الجواهري (محمّد مهدي 1977 م) كلّ هذه الأجيال ويطغي عليها في شعروطني وقومّي، وانسانيّ مُجّسَّد المعالم.
هؤلاء جميعا انتظم شعرهم المجتمع لأوطانهم، والأمّة، والحضارة الجديدة من مخترعات كالقطار والسيّارة والساعة والطيّارة والكهرباء ونظريّة دارون في أصل الأنواع، وقضيّة الشكّ واليقين عند ديكارت، علاوة علي المعركة، في السفور والحجاب، وتجديد الشعر والخلاصة من ذلك أنّهم أرادو للشعر مفهوما، ووظيفة، ومتعة، تخدم الفرد والمجمتع والأمة، وتعينها علي خروجها من(20) محنتها وتخلّفها، فالشعر في مفهوم الزهاوي (جميل صدقي 6193 م) يجب أن ينبعث من مشاعر قائله نزيها غير مقيّد، ينبعُ من مشاعرٍ صادقةٍ جريئة مدافعةٍ عن الحّقِ قال:
إنّما الشّعُر من القا
ئل لِلشّعر شُعُورْ
وبه مُعتكفٌ في
بَيتهِ وَهْوَ يَدوُرْ(21) (رمل)
والشعر له وظيفة مضافة إلي وظيفة التعبير عن المشاعر وهي (السَّلْوي) يلجأ إليها الشاعر ويلوذ بها لتحميه ممّا يري من مآسي المجمتع قال: (رمل)
أيّها الشعرُ سُلُويّ
أنت في ساعَةِ هَمِيّ
أدرءالأحزانَ عنّي
بأَبِي أنتَ وأُمِيّ(22)
وهو إبداع لأنّ عهد التقليد وَلّي، ولم يعدله مكانٌ في منازلِ الشّعرِ، حيث أنشد قائلاً (مُجتث):
الشِعرُ فيه هبُوطٌ
والشعر فيه طِلاعُ
ومنهُ تقليدُ مَنْ قَد
مَضي ومِنهُ (إقتراعُ)(23)
والشعر له مستويان، وخيرهمان ما كان دفاعا عن الحقّ قال (مجتثّ):
الشِعر ليسَ سواءً
مِنه سَمينٌ وغَثّْ
وأحْسَنُ الشعر ماكان
فيه للِحَقّ بَثّْ(24)
و الشعرُ في مفهوم الرّصافي (معروف عبدالغني 5419 م) وظيفته خدمة الوطن و الأمّة والإنسانيّة، إذيجب علي الشاعر أن يطرح واقع المجتمع، ويدافع عن الأمّة ويتصدّي للظلم وحكم الإستبداد،والإستعمار في تسبحٍ مبدع جديد، مروّحا عن هموم قائله:
عَلي أنّ لي طبعا لَبيِقا بِوَشْيِهِ
نزوعا إلي أَبكاره دوُن عيُونِهِ
لَعَمرُك إنّ الشعرَ صُمْصامُ حِكَمةٍ
وإنّ النُهي مَعْدودةٌ من قُيونِهِ(25)
والشعر في رأي الشبيبي (محمدرضا 5619 م) له أهداف، ومُثُلٌ، ومعان أشار إليها في قصائد كثيرة منها:(لامية العرب الجديدة) و(الهزار الشاعر) و (ذكري شاعر)و(الإجتماع والشعراء)
والشعر عنده له غاية تفصل بين الحّق والباطل، وتقصد إلي الصدق، وتنسكب في معاني ألفاظه روح الإبتكار والخلود، وتسيل بين نسيج أبياته مُتعةُ السِّحْرِ أمّا الجواهري؟ فهو لسان الشعب، والأمّة والإنسانيّة قال: (الكامل)
وأنا لسان الشَعب كلُّ بليّة
تأتيه أحمِلُ ثِقلها وأُصَوِّرُ
وإذا تقطّر من فُؤادي جانِبٌ
حَدُبَت عَلَّي قلوبه تتقطّرُ(26)
ثمّ نبعت مدرسة جديدة من المدرسة السابقة وانسلخت عنها، وأخذت علي عاتقها سنة 7419 م بعد الحرب العالميّة الثانية التغيير في الأشكال مع التطوير في المضامين إبتداءً في شعر بدر شاكر السيّاب ثمّ نازك الملائكة وآخرين فكان الشعر الحديث (المسمّي بالشعر الحرّ) مرحلة جديدة، ومدرسة سرعان ماانتشرت في جميع الأقطار العربيّة باعثة شعلة النهوض في الفكر العربي المعاصر حاملة أشكالها ومضامينها هذا المفهوم العام لرسالة المواطن انطلق منه مضمون الشعر الحديث، وقامت الدعوة فيه علي أساس من تسخير الشعر لخدمة الأغراض الإجتماعيّة والسياسية، والحضارية، وشجب دعوة الفن للفن، لأنّه ارتبط بالواقع، وجَنَّدَنفسه لهذا الواقع وخدمته وتطويره وطرح النقاد في ظلّه شعار الأدب الهادف، لتحديد مضمون هذا الشعر الجديد، فلم يعد الشاعر في حركة هذا الشعر يعيش بعيدا عن الشعب والأمّة بل اندفع بكلّ قواه يشارك في المعركة المصيّرية، ويلهب أَتّونهابشعره المنبعث من تجربة حيّة، تمرّس الشاعر معها بأوضاع الكفاح، وحَمَلَ منها شَرَرَ القضيّة التي يؤمن بها.
إذن يتميّزهذا الشعر الجديد بعودة الشاعر إلي الإرتباط بالحياة الإجتماعيّة والإقتصاديّة والسياسيّة.
وقد أضاف، سبيلاً جديدة إلي ما كان مألوفا للتعبير عن هذه الرسالة الوطنيّة أو القوميّة، وهذا السبيل هو الغزل والحب الممزوج بالحرمان فهذا بدرشاكرالسياب في أَغلب قصائده مثل (مطر... مطر) و(الأسلحة والأطفال) و غيرهما، يمزج هذا الحب والغزل بالقضايا الأساسية في رومانسية حالمة، فيلوّن صوره وينوعها ويبرزها في طرحٍ يصوّرفيه المجتمع العراقي، والظلم، و رفض أشكال الإستعمار.
2- مدرسة المهجر (ومفهوم الأدب):(27)
...القّت مدرسة المهجر في حركة التجديد مع مدرسة الديوان، ثم تخطّتها أشواطا في تجديد الشعر، وتحريره من الجمهود، وتطوير مضمونه، والخروج به عمّا عرف قديما من موضوعات.
وأضحي أثرها في توجيه الشعر قويّا وفاصلاً وكانت النماذج التي نسجها الشعر المهجري للوجدان قوّية التأثير في بعث روح الشعر بعد جموده حيثَ وجَّهت أفكارها إلي جوهره النَّقي، وشَقّت للشعر سبلاً لم يَعْهَدْها من قبل، علي أَنّها أخذت من التُّراث بحذر.
ومدرسة الديوان مقارنةً بمدرسة المهجر، محافظة، لأنّها أكثر إرتباطا بالتّراث، ولم تقطع الصّلة به، بل اعتمدت في معركتها مع التقليديين علي اطّلاع واسع من الشعر القديم، وتفاعل قوي مع الثقافة العربيّة بصفة عامّة ومع الثقافة الغربيّة بصفة خاصّة، في حين كانت مدرسة المهجر تعتمد أساسا علي الإلقاح الغربي، متعاملة في تفاعلها مع التراث العربي بقلّة وحذر. التجديد في الشعر المهجري تناول (الصياغة) و(المضمون) فسعي في (الصياغة) إلي التحرّر من الأشكال القديمة، وقصد البساطة في التعبير وتجنّب الزخرفة اللفظيّة، وجعل القيمة الإنسانية في الشعرأَعلي من القيمة اللسانية، وتخلّص من القوالب القديمة، وهدف إلي الأوزان الخفيفة، مع ميل إلي التنويع في الأوزان كما استغلّ أَساليب الموشّحات الأندلسيّة، وأَعطي اللفظة كلّ ما تحتاج إليه من الشاعرية في المعاني، والإشعاع الروحي مع لذّة السحر، وحلاوة الموسيقي، وعذوبة النطق، وجمال التصوير، وعبق التعبير، حيث جعل اللفظة حالمة ندية مفعمة بالجمال والأسي والحسرات.
أمّا المضامين؟ فقد كانت ثورة عارمة علي الأغراض التقليديّة القديمة داعية إلي استيماء النفس الإنسانيّة، متنعّمة علي الحياة منتظمة مايدور فيها من مشاكل الإنسان الإجتماعية والسياسية والإقتصاديّة.
اتسم شعرالمهجر، بومضات الغربة الرومانسية، والذاتية الفردية لأنّ الشاعر في الشعر المهجري حبيسٌ لوجدانه وذاته حتّي في حال اتصّاله بالشعور البشري العام.
فالشاعر هنا بصير بالأعماق الوجدانية مع تعدد نظراته للحياة،(28) وقد اختلفت هذه النظرة بإختلاف الشعراء إلّا أنّها كانت مشتركة في الذاتية الفردية عند الجميع.
إذن يتميّز أدب المهجر بالتجديد الطامح إلي الكمال، بخصائص قوية في أشكاله ومضامينه، تحرّر من سيطرة القديم في الأشكال بعد أن استوفي مالابدّمنه للصياغة الحديثة ونزعة التجديد والإنتقال من الإتباع إلي الإبداع والإعتداد بالشخصيّة الأدبيّة، لاجمود في القوالب الجاهزة، ولا ميوعة في المنابع المستحدثة نثرا أو شعرا.
قد انعتق النثر من المدلولات الثابتة، والرواسب القديمة، وانطلق الشعر بأصوات كثيرة متنوّعة، وأوزان قصيرة كما أسلفنا وموشّحات تتباري بالفن مع ما خَلَّفَتْهُ الأندلسُ.
3- مدرسة الديوان:(29)
كان نقد هذه المدرسة ينصب معظمه علي فنّ الشعر، لعراقته من جهة، ولعدم بروز الفنون الأخري من جهة ثانية، ونقدها أَغلبه نظري، وأقلّه تطبيقي و أعضاؤها كلّ منهم متأثّر بنظريّة غربيّة اتّخذها مَثَلاً له وأشهر مؤسّيسها: احمد شوقي (1932 م) والمازني (ابراهيم عبدالقادر9419 م) وعبدالرحمن شكري (1958 م)، والعقّاد (عبّاس محمود 6419 م) وغيرهم كثيرون وأهمّ مقاييسها:
1- الصدق: وهو التوافق بين شخصيّة الشاعر وشعره، ويقصدبه الصدق الفنّي الذّي يتضمّن صدق الشعور الذّي يعبّر عنه الشاعر ويصدر هذاالشعور منه عن مزاج أصيل لا تكلّف فيه وقد أوجب العّقاد علي الأديب التزام الحقيقة النفسية وليست الحقيقة المتجرّدة كما وضع كلّ من العقّاد والمزاني مقياسا لشعرالطبع يتلخّص في (صدقه وتأثيره) فإذا كان صادقا مؤثّرا، فهو مطبوع لا تكلّف فيه.
2- قوّة التعبير عن وجدان الأديب، فشعرالشخصيّة (الذاتية) الذّي أنتجه العقّاد والمازني هو من جوهر نظريتيمها القائل: (إنّ شعرالشخصيّة: تعبير عن وجدان الشاعر) وهو لفي قمّة الذاتية حيث يعبّرعن (أغوار) الوجدان للإنسان العربي، وتكون به (حياة الشاعر وفنه) متطابقين، (أي شيئا واحدا) لاينفصل أحدهما عن الآخر، بمعني لا ينفصل فيه الإنسان الحيّ عن الإنسان الناسج للنصّ.
3- الإعتراف بالتذوق الخاص (الشخصي): أعترف أَعضاء مدرسة الديوان بالذوق وسيلة أساسيّة في النقد، ولكنّهم اختلفوا في تفسير هذا الذوق، فعبد الرحمن شكري مثلاً لايُسَلّمُ للذّوق الخاص وحده بل يري أنَّ هناك ذوقا عاما يضاف للذوق الخاص يمكن أن يلتزم الجميع حدوده، فيقول عن الذّوق:
«اجتمع أعظم المصوّرين فصنع كلٌّ صورةً أَملاها عليه ذوقه، وزعم أَنّها بلغت غاية الجمال، إذا رأيتها، وَجَدْت إختلافا عظيما يَنَبِّي ءُ عن مثلِهِ في أذواق هؤلاء المصوّرين، ورُبّما كان بين الرسوم ما يستمجه بعضهم علي أنّك لَو قُلتَ لهم ما يَسْتَحلّوُنَ من معاني الجمال، عَجبْتَ لإختلافهم فيما يعرضون عليك»(30)
أمّا العقاد والمازني، فمع إعرافهما بالذوق العام يميلان دائما إلي الذوق الخاصّ، ويعطيان له الأولوّية في مسائل النقد والنتاج الأدبي.
إنّ جماعة الديوان، النّقاد منهم يُقَوِّمونَ الجانب الفّني في العمل الأدبيّ من خلال انطباعاتهم الشخصيّة فهم في الحقيقة نُقّاد تأثريون.
4- الحرص علي التقويم: حرص أعضاء جماعة الديوان في نقدهم للنصوص الأدبيّة علي التقويم والتوجيه أكثر من حرصهم علي التفسير والتحليل وقديكون هذا الإتّجاه ممّا يتماشي مع طبيعة النقد الأدبي في تراثنا الأدبي.
إنّ الظروف التّي تولّي فيها أعضاء جماعة الديوان مهمّة النقد الأدبي، ساعدت دونما شكّ علي دفعهم نحو هذا الإتّجاه فهم في الواقع لم يكونوا نُقّادا فحسب وإنّما كانوا يخوضون معارك التجديد، وهم يثورون علي الكلاسيكيّة القديمة في النقد العربي القديم.
كما أنّ هؤلاء النقاد، قيّموا الأدب من خلال النظريّات الغربيّة التّي تأثّروابها، ونظروا إلي الأعمال الفنيّة كلّها من خلال مواقف فكريّة عامّة واحدة علي الرغم من خلافاتهم الفكريّة الأدبيّة فيما بينهم.
علاوة علي أنهم كما أسلفنا من قبل يهتمون بالتقويم ويهملون أحيانا التحليل والربط للنماذج بعضها مع بعض، ويحتفلون بإطلاق الأحكام العامّة، و الأحكام التّي تعكس أذوافهم الشخصيّة.
5- الإهتمام بالمضمون: إنّ الإهتمام بالنقد عندأعضاء جماعة الديوان يقوم أساسا علي العناية بالمضمون والإهتمام به أكثر من الشكل وهذا الذي دفعهم الي القول بأنّ كلّ كلامٍ لم يكن مصدره صحّة الادراك، وصدق النظر في استشفاف العلاقات، يكون هُراءً ولا محلّ له في الأدب إذن تغيرالحياة الفكريّة، والإطلّاع علي الأدب الغربي وفلسفته، وعوامل أخري كثيرة؛ دفع أعضاء جماعة الديوان إلي الإهتمام بالمضامين أكثر من الأشكال، فقد شُغِلت أذهانهم بالثقافة العلميّة والفلسفية، من أجل ذلك نزعوا إلي مزج العلم بالفلسفة مع الكثيرمن المناذج الأدبيّة.
6- النقد العلمي الفلسفي: كان العقّادُ أسبقَ من المازني وعبدالرحمن شكري إلي النقد العلمي الفلسفي فهو يري أَنَّ الشكري والمازني، (غَيَّرا) منهجيها في القراءة حيث إلتفتا إلي النقد العلمّي والفلسفي بعد أنَ كانت القراءة عندهما شاخصةً إلي النقد الأدبّي المحض علي أسلوب الغربيين من مثل (ماكولي) و(ماكس نوردو)و(المبروزو) و(السنج) و( نيشته)وغيرهم.
وقد كان أدباء الديوان هؤلاء يعتزون بأصولهم، وتراثهم التاريخي، فهذا خليل مطران يصف قلعة بعلبكَّ ويفخربها متذكّرا أيّام صباه في مدينته الّتي عاش فيها أيّام الصّبا بأحلامه وآماله وطموحه فيقول: (خفيف)
همّ فجر الحياة بالإدبار
فإذامَرَّ فهي في الآثار
والصّبا كالكري نعيمٌ ولكن
ينقضي والفتي به غيرُ دارٍ(31)
4- مدرسة أبولو:(32)
كان مؤسّس هذه المدرسة الشاعر المصري الدكتور أَحمدزكي أَبوشادي (1892 م 1955 م) وهي إمتداد لمدرسة الديوان، فقد تأثّرت بها، وانبعثت من خلال الصراع العنيف الذي داربين شعراء التقليد وشعراء هذه المدرسة ونقّادها، كانت مدرسة الديوان من قبل تهتم بصياغة النظريات التجديدّية أكثر من أهتمامها بصياغة النّص الشعري، وحينما جاءت مدرسة أبوللو عكست الأمر فاهتمت بصياغة النصّ الشعري أكثر من إهتمامها يصياغة النظريّات.(33)
مدرسة أبوللّو تيار نشأمنذوفاة سعدزغلول (1927 م) أو قبيل ذلك، وقد تميّز هذا التيار بشيئين مهمين: هما الوجدان الذاتي، والتعبير الرمزي.
بدأت هذه المدرسة ترسل شعرها غناء ذاتيا متفجّرا عن عواطف جياشة، ووجدان منفصل حزين وقد تطوّرت هذه المدرسة عندما صدر العدد الأوّل من مجلّة أَبوللّوفي (سبتمبر) سنة 1932 م حيث أُعلنت جميّعة تتألّف مَن أحمد شوقي (1932 م)رئيسا وخليل مطران وأحمد مُحَرَّم نائبين للرّئيس، والدكتور أحمد زكي أبوشادي (1955 م) سكرتيرا، وأعضاؤها: الدكتور إبراهيم ناجي (1935 م)، والدكتور علي العناني، وأحمد الشايب، وسيدابراهيم وعلي محمود طه (9419 م) ومحمود أبوالوفا، وحسن القاياني و حسن كامل الصيرفي(34) ثمّ جُدّد الإنتخاب سنة 1933 م، فأصبح خليل مطران رئيسا، وابراهيم ناجي وأحمد محرّم نابئين، للرّئيس، وأحمد زكي سكرتيرا، والبقيّة من الأدباء أعضاء ثمّ ضمّت هذه المدرسة الكثيرين من الشباب فيما بعد.
إنّ التجديد في نظر هؤلاء الشبّان في البداية، لم يكن معنيً كامنا في نفوسهم قاصدين إليه قصدا، بل كان خواطرومضات فنيّة، وفورات يعبرون عنها من خلال نتاجهم الشعري المتنوّع النزعات ومن خلال نظراتهم النقديّة فهم يدعون إلي الوحدة العضويّة للقصيدة؛ ويؤكّدون علي التحرّر البياني و الطلاقة الفنيّة ويستحثون الشخصيّة الأدبيّة علي الإبداع والإبتكار، وينهونها عن اجترار الماضي، ويريدون منها الإبتعاد عن الأغراض التقليدية، و الوفا وللعصر الذّي تعيش فيه بأن تعكس الحياة والطبيعة.
كانت الفكرة في نتاج هؤلاء الشعراء منسجمةً مع الخيال والشعور (العاطفة) حيث مزج أفراد هذه المدرسة بين الوجدان والعقل، فخرجت تجارُبُهُمْ مشرقةً متّسمة بطبع دقيق تتوهج فيه الرؤيا الشعريّة والإنفعال الحارّ، فانطلقت مضامينهم، واتّسعت للشعر الوجداني، وشعر الطبيعة الّتي إمتزج بها بصورته الصوفية الفلسفيّة، عن طريق الإيحاء الرمزي.
حاولت قوالب هذه المدرسة الإنفلات من أسراالتقليد والجمود، فنتوعت في القوا في والبحور، أحيانا، وتحررت من القوا في أحيانا أخري.
وجدّدت في الأشكال حيث ظهر في نتاجها أنواع من القصص والمسرحيّات الشعريّة إلي جانب الفيض الشعري وهي لم تكن مدفوعة بفطرتها إلي التجديد بل بادراكها الحاجة إلي التجديد بعد تناولها النتاج الشعريالسابق بالدرس والتحليل الناقد.
وكان أبوالقاسم الشابي يري:«أنّ المدرسة الجديدة تدعو إلي أن يحدّد الشاعر ماشاء من أسلوبه وطريقته في التفكير، والعاطفة، والخيال، وإلي أن يستلهم ما يشاء من كلّ هذا التراث المعنوي الّذي يشمل ما ادّخرته الإنسانيّة من فَنّ، وفلسفة ورأي، ودين، لافرق في ذلك بين ما كان منه عربيّا أو أجنبيا، وبالجملة، فانّها تدعوإلي حرّية الفّن من كلّ قيديمنعه الحركة والحياة».
ويمكن أن نلخّص عمليّة التجديد عند أصحاب هذه المدرسة في ثلاث نقاطٍ هي:
1- التجديد في البناء الفنّي
2- التجديد في البناء الدّاخلي.
3- الغاية الشعريّة (هدف الشعر)(35)
أوّلاً التجديد في البناء الفنّي الخارجيّ:
ويشمل أنواعاكثيرة منها:
1- التجديد في الألفاظ: فقد ابتكر شعراء أبوللّوفي الألفاظ، وَحَمَّلُوها دلالات تختلف عن دلالاتها القديمة، وقد أعانهم علي ذلك استخدام التعبير الرمزي لمثل هذه الألفاظ في كثيرمن المواقف فقد رأينا ألفاظ أصحاب هذه المدرسة شيقة في قصائدهم السحرية، مليئة بالأطياف والظلال، والسكون الشمسي، والعطر المفضض، والشفق السحري، والليل الأبيض، والنور الهادئ والخواطر المذعورة وكان أبوشادي من أوائل الذين أدخلوا هذه الألفاظ في شعرنا الحديث، وله قصائد كثيرة تحمل ألفاظ من مثل (بلوتو) و(برسفون) و(إيليا وصموئيل) و(ديوس) و(پودوبا).(36)
2- التجديد في العروض، ويمكن أن نلخصه في:
أ: ألشعر الحرّ (الحديث): وهو مالم يتقيّد بقافية، ولا بتوازن بين الشطرين
ب: الشعر المرسل: وهوما يلتزم فيه البحر الواحد مع تحرر من القافية
ج: الشعر المنثور: وهو ما لا يتقيّد بوزن ولا قافية
د: الشعر القصصي: وهو قصص تعتمد علي نقش شاعريّة، تتجاوب إيقاعاتها مع أعماق الإنسانية الداخليّة....
نستطيع أن نجمل التجديد الذي نادي به شعراء(أبوللّو) بمايأتي:
أ: ألألفاظ
ب: الشعر الحرّ
ج: الشعر المرسل
د: الشعر المنثور
ه: الشعر المترجم والمطولّات التأملّية
و: الشعر القصصي
ز: الشعر التمثيلي
ح: الشعر العلمي
غير أن هذه المحاولات التجديديّة في شعر أصحاب هذه المدرسة لم تكن بمستويً واحدٍ كما هي الحال عندمعاصريهم من شعراء القصيدة العموديّة.(37)
ه مقاييس النقد الأدبي
إذا كان النقد ضرورة من ضروريات الحياة لانستغني عنها مادامت تتطلّب التقدم ومحاولة البراءة من النقص والتخلّف فمن الطبيعي أن يتناول النقد جميع مقوّماتها العلميّة والفنيّة والإجتماعيّة والسياسيّة لعلّه يصلح ما فسد، ويعين علي الترّقي، ويهدي الباحثين والعاملين إلي أهدي السبل و أسمي الغايات لهذا اختلف النقد أو تعدّد بتعدّد نواحي الحياة فمنه
1- النقد السياسي الذّي يتّخذمقاييسه من أصول الحكم، والقوانين الدولية، والبراعة التّي تفيد الدّولة وتدعم سلطاتها داخليّا وبين الدّول جميعا.
2- ومنه النقد الإجتماعي الّذي يعتمد في كيانه علي تقاليد الأمّة، ومايسيرعليها حياتها،ويحمي أفرادها وأسرها وأخلاقها من الفساد والتدهور، وعلي جميع ما يرضي الكافّة، ويجعل الأفراد مهذّبين صالحين لمسايرة التقدّم والنّجاح
3- وهناك النقد العلمي المتّصل بالطبيعة والكيمياء والريّاضيّات ونحوها،(38)وهو خاضع لهذه المناهج النظريّة والتطبيقية (التّكنولوجيّة) التّي وضعت لكلّ علم، وإن كانت كلّها مشتركة في صحّة المقدّمات وسلامة التجارب ودقّة الإستنباط والتجرّد من الأشياء الذاتيّة، إذ كانت المسائل العلّمية ظاهرة عقليّة موضوعيّة تتناول الحياة، كما هي في الواقع دون أن يكون الذّوق أو المزاج فيها نصيبٌ.
4- وهناك النقد الفنّي، وهو كذلك خاضع لأصول عامّة تصلح للفنون الرفيعة كلّها من رسم وتصوير وادب وموسيقي ونحت من ذلك صدق التعبير، وقوّة التأثير وجمال الخيال ومراعاة التناسب، ومع ذلك فلكلّ فن منها مقاييسه النقديّة الخاصّة تبعا لطبيعته، و وسيلته في الأداء، وهي متأثرة حتما بالذاتية اي بهذا الذّوق الفنّي لكلّ ناقدولسنانريد هنا التوّرط في اصول النقد العلميّ ولا الفنيّ العام وإنّما أشرنا لنفرغ منها إلي النقد الأدبي خاصّة إذ كان نوعا من أنواع النقد يكون فنيّا أو مزيجا من العلم والفنّ كما يمرّتحقيق القول في ذلك.
الثاني: والنقد الأدبي خاصّ بالأدب، وإذا كنّا نفهمه بالمعني العام أي تفسير الأدب وايضاحه فنستطيع أن نعدّ من أنواعه مايلي:
اوّلاً: النقد التاريخي الذّي يشرح الصّلة بين الأدب والتاريخ فيتّخذ من حوادث التاريخ السياسي والإجتماعي وسيلة تفسير الأديب وتعليل ظواهره وخواصّه.
ثانيا: النقد الشخصي وهو الذّي يتّخذمن حياة الأدب وسيرته وسيلة لفهم آثاره وفنونه وخواصّه الغالبة عليه فإن الأدب صادر عنه مباشرة ليسهل بذلك شرحه وتعليل أوصافه.
ثالثا: النقد الفنّي وقد قلنا من قبل انّه أخّص الأنواع وأولاها بمن يريد فهم طبيعيّة الأدب وبيان عناصره، وأسباب جماله وقوته ورسم السبيل الصالحة للقراءة والإنشاء، وهو عندي أحقّ الأسماء بهذه التسمية، فهو النقد حقّا وماسواه من الطريقة التاريخيّة أو الشخصيّة تفسير، وإن كان بلاشكّ يعين عَلي صحّة النقد الفني وعلي سلامة أحكامه من الغموض والضلال وهو المنهج النقديّ
3- وإذا استتقصينا مظاهر النقد الأدبي في تاريخ الأدب العربي والفارسي وجدناها كثيرة منوّعة فنقد لفظي، واخر معنوي، وثالث موضوعي، ومن اللّفظي ما هو لغوي أو نحويّ أو عروضي أو بلاغي، ومن المعنوي ما يتصّل بابتكار المعاني أو تعميقها أو توليدها أو أخذها ثمّ ما يتصّل بالأخيلة وطرق تأليفها لتصوير العاطفة، ثمّ العاطفة الصّادقة والمصطنعة ومن الموضوعي ما يليق بكلّ مقام من المقال أو الفنّ الأدبيّ الخاص حتيّ غلواو حاولوا أن يقصروا الشعر علي فنون دون النثر و يمكنك الرجوع إلي ذلك كلّه في الموشّح للمرزباني، والصناعتين للعسكري والبيان والتبيين للجاحظ، والموازنة للآمدي، والوساطة للجرجاني، ودلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني وحدائق السّحر للرشيد الوطواط ولن تتّسع هذه الصفحات لايراد الأمثله لذلك فارجع إليها في مظانها المذكورة.
وفي عصرنا الحديث نشهد درجتين للنّقد الأدبي أو نوعين من أنواعه:
إحداهما الدّرجة السريعة وتتناول الآثار الأدبيّة، أو الفنيّة، التّي تقدم كلّ يوم إلي الصحف والمجلّات، وتعدّهذه الدّرجة نوعا من الإعلان أو الوصف يعتمد علي ملاحظات سريعة تعين القاري علي معرفة ما يصلح له من الكتب التيّ تصدرها المطبعة تباعا، ومع ذلك فيجب ألا يخلوهذا النقد من الجدّ وصحّة الحكم والإنصاف وترك المجاملة لئلّايضلّ القراء ويذهب بمكانة الصحفيّ الأديب والثّانية أسمي من الأولي وأبقي إذ كانت عاملاً من عوامل الرّقي ونشر الثقافة العامّة بين القرّاء، وتظهر في المجلّات المحترمة أو الكتب و تعمد علي الدّراسة العميقة(39)والثقافة العريضة، والتفكير الواضح السديد، والموازنة الشاملة وهي تنتهي في الغالب بعرض خلاصة كافية للآثار المنقودة أو بإكمال ما ينقصها، أو يفتح آفاق جديدة للبحث متصلة بموضوع الكتاب ويمكن هنا إجمال الأخطاء الّتي تندرج فيها هذه الطريقة حتيّ تصل غايتها إلي أن نفصلّها في حينها إن شاءاللّه.
فعلي الناقد أوّلاً: ألا يهمل هذه الجزئيّات اللغوية والنحويّة التي تعين علي فهم عقل الأديب وتاريخ أفكاره أثناء كتابه أو مقاله أو قصيدته أو قصّته وماانتهت إليه من نتائج وآراء و مذاهب وذلك يقتضيه أولاً تفهم المعاني الحقيقة التيّ تدلّ عليها عبارات بعناصرها الأصلية التيّ تسمي عمدة كالمتبد إوالخبر والفعل والفاعل أو بعناصرها الثانوية التي تسميّ فضلة كالحال والفاعيل وبعض المتعلّقات.
وثانيا: فهم المعاني المجازية أو التضمنيّة والإلتزامية التي تؤديّها العبارة بطريق الإستعارة والكناية أو تشيرإليها إذا كانت موجزة تكتفي بالإشارة والتلميح.
وثالثا: قيمة كلّ جملة في ايضاح المعاني، إذا كان بعض الجمل أساسيا يدلّ علي أصل المعني والبعض إيضاح أو تكرار وهذه الأخطاء علي جفائها تعدّ اساسا لازما للدّرجة السامية من درجات النقد الأدبيعلي أنّ الناقد مادام يصل بين هذه الملاحظات النحوية وبين المعاني والأفكار يشعربخفّة بحثه ومتعته. فإذا انتهي من ذلك واجه عمله الحقيقي الخطير الذّي يتجلّي في تعرّف الأثرالمنقود: كيف ظفر بخواصّه اللفظّية والمعنوية، وعلي أيّ شي ء يدلّ ممّاله صلة بعقل كاتبه وعواطفه وأخيلته ومزاجه ومواهبه وبيئته ومعارفه، فإذا بنا نحيامع الأديب ونري بعينه ونسمع بأذنه، ونخضع أنفسالميوله ونظريّاته وروحه، وننتقل من فهمه إلي فهم عصره وبيئته كلها، ثمّ نحسن الحكم والتقدير.(40)
فهرس المصادر والمآخذ
1- الأدب العربي الحديث (خفاجي) الجزء الثاني (مدرسة أبوللّو)
2- أصول النقد الأدبي تأليف أحمد الشائب الأستاذ بجامعة القاهرة مكتبة النهضة العربيّة سنة 1999 م
3- تاريخ النقد الأدبي عندالعرب الدكتور احسان عبّاس، دارالثقافة بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة 1241 ه 1992 م.
4- الجامع في تاريخ الأدب العربي، الأدب الحديث، تأليف حنّا الفاخوري دارالجيل، بيروت، لبنان، الطبعة الأولي 8619 م.
5- حافظ إبراهيم الدكتور عبدالحميد سندالجندي دارالمعارف ط - 2 - القاهرة 8619 م
6- في النقد الأدبي الدكتور شوقي ضيف دار المعارف بمصر الطبعة الثالثة سنة 2619 م
7- ديوان الخليل مطبعة دارالهلال مصر 9419 م.
8- ديوان الرصافي (معروف عبدالغني 6413 ه/ 5419 م) مطبعة الإستقامة، ط 6، القاهرة 1379ه
9- الشعروالشعراء في العراق أحمد أبوسعد دارالمعارف لبنان 1959 م
10- شوقي وقضايا العصر والحضارة الدكتور حلمي علي مرزوق دارالنهضة العربيّة بيروت 1981 م
11- المجموعة الشعرية الكاملة شاعر العرب الأكبر محمدمهدي الجواهري المجلد الأوّل والثاني دارالطليعة ط 1 بيروت 8619 و 9619 م.
12- محاولات في النقد والدراسات الأدبيّة الدكتور احسان عبّاس المجلّد الثالث دارالغرب الإسلامي 2000 م. بيروت، لبنان.
13- النقد الأدبي الحديث، تأليف الدكتور محمّد غنيمي هلال درالثقافة بيروت، لبنان، 1973م
41- النقد الأدبي الحديث تأليف الدكتور علي جابر المنصوري الأستاذ بجامعة بغداد دار عمّار، عمّان 1999 م
15- النقد الأدبي لأحمدامين القاهره 1952م
61- النقد الأدبي المعاصر، قضاياه واتّجاهاته - الدكتور سمير سعدحجازي دارالآفاق العربيّة، القاهرة 2141 ه 2001 م.
17- النقد المنهجي عندالعرب ومنهج البحث في الأدب واللّغة مترجم عن الأستاذين لانسمون وماييه الدكتور محمّد مندور، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، تاريخ النشر إبريل 6619 م.
18- البيان والتبين، الجاحظ، تحقيق وشرح عبدالسلام محمدهارون دارالجيل بيروت 1041 ه، 1990 م
الهوامش
1. أصول النقد الأدبي تأليف احمد الشايب، مكتبة النهضة المصريّة سنة 1999 ص 411 118 والنقد الأدبي لأحمد امين ص 1-3
2. النقد الأدبي المعاصر، قضاياه واتجاهاته الدكتور سمير سعد حجازي 2141 ه 2001 م ص
19-41
3. أصول النقد الأدبي 115-611
4. راجع أصول النقد الأدبي تأليف Winchcster، ص 1 و أصول البلاغة الأستاذ Genung
ص 591 والفصل الثاني من "فنون الأدب" لنشارلئن تعريب زكي نجيب محمود.
5. لاسل ايركرومني: قواعد النقد الأدبي، ترجمة محمد عوض ص 153 وأصول النقد الأدبي
ص 117
6. ايضا نفس المصدر ص 118، والنقد الأدبي المعاصر ص 15-61
7. النقد الأدبي الحديث تأليف الدكتور محمّد غنيمي هِلال دارالثقافة بيروت 1973 ص
11-62
8. أيضا نفس المصدر ص 12
9. النقد الأدبي الحديث ص 155-615
10. الجاحظ: البيان والتبيين، تحقيق وشرح عبدالسلام محمد هارون، ج1، ص 203
11. الجامع في تاريخ الأدب العربي، تأليف حنّا الفاخوري دارالجيل بيروت الطبعة الأولي
6198 م ص 63-04
12. في النقد الأدبي، بقلم الدكتور شوقي ضيف الطبعة الثالثة دارالمعارف بمصر ص
619-197
13. النقد الأدبي المعاصر الدكتور سمير سعد حجازي دارالآفاق العربيّة 2141 ه 2001 م ص
25
14. أنظر، حافظ إبراهيم (شاعرالنيل) الدكتور عبدالحميد الجندي دارالمعارف ط 2 مصر
8619 م (الوطنيات) 152-417 و (بين حافظ وشوقي) 193-218
15. شوقي أو صداقة اربعين عاما/100 والنقد الأدبي الحديث تأليف الدكتور علي جابر
المنصوري ص 74-51
16. نشأت في أمريكا الشمالية، والجنوبية، وكانت نتيجة طبيعية لهجرة هؤلاء الأدباء من جراء
الظروف الإقتصادية والسياسية في لبنان آنذاك
17. ايضا المصد رالسابق ص 50
18. الشعر والشعراء في العراق (1900 م 1958 م) أحمد أبوسعد دارالمعارف لبنان 1959 م
19. النقد الأدبّي الحديث / 52
20. ديوان الزهاوي / 229 نقلاً من النقد الأدبّي الحديث ص 52
21. المصدر نفسه/ 230. 22. المصدر نفسه / 23. 23. المصدر نفسه / 233 24. ديوان الرصافي، مطبعة الإستقامة،ط 6، القاهرة1379 ه نقلاً عن النقد الأدبي الحديث ص 53 25. المجموعة الشعريّة الكاملة: محمّد مهدي الجواهري، مطبعة دارالطليعة ط - بيروت 8619 م / 2 / 7-2 26. رفيق شاعرالوطن خليفة عمر التليسي ط 3 - مالطا 6197 م (الشعر الحديث) والقوافي، ص 25 - 30، والنقد الأدبي الحديث ص 58 16
27. القديم والجديد في الشعرالعربي الحديث الدكتور واصف أبوالشباب درالنهضة بيروت
841 ه / 1988 م الفصل الرابع (جماعة المهجر) 341-172
28. ديوان: صيغة فيعال من التدوين ومعناها: إنّ هؤلاء الشعراء دوّنوا شعرهم و كتاباتهم في كتاب
واحد سُمّي (الديوان). ثمّ انتقل هذا الإسم،إلي اتّجاه هؤلاء الشعراء في الشعر، ولمّا كان هذا الإتجاه بشكل مدرسة، سمّيت (مدرسة الديوان) ضَحّت كثيرا من الشعراء في مقدّمتهم عبدالرحمن شكري (1958 م) و عبّاس العّقاد (6419 م) والديوان أساسا كتاب ألّفه العّقاد (محمود عبّاس 6419 م)، والمازني (إبراهيم عبدالقادر 9419 م) و أو دفاعيه بعضا من شعر هما، وبعضا مما كتباه من مقالات نقدّيه. راجع الديوان عبّاسي محمودالعقّاد والمازكني، مطابع الشعب الطبعة الثاثقة القاهرة بلاتاريخ.
29. شوقي و قضايا العصر والحضارة الدكتور حلمي علي مرزوق درالنهضة العربيّة بيروت
1981 م / 361 ومابعدها
30. ديوان الخليل خليل مطران مطبعة درالهلال مصر 9419 م، / 97-100
31. أبوللّو: أساسا أحدآلهة اليونان، وكان لأحدقساوسته ابنة أسمها (كريزس CRYSIS) إختطفها القائد اليوناني (أجاممنون)، قغضب أبوللو ونشر الطاعون في الجيش اليوناني أثناء حرب طروادة في الإلياذة ثمّ سمّي هؤلاء الأدباء أوّل مجلّة لهم أصدروها بهذا لإسم ثمّ انتقل هذا الإسم ليصبح مصطلحا لمدرسة أدبيّة إحتوت نتاج مَن انتمي إليها فيما بعد مِن الأدباء.
32. ألقديم والجديد في الشعر العربي الحديث الدكتور واصف أبوالشباب (جماعة أبوللّو)، 12
241
33. المصدر السابق ص 121-241
34. الأدب العربي الحديث (خفاجي) الجزء الثاني (مدرسة أبوللّو) 4-3 والنقد الأدبي
الحديث ص 76-72
35. هذه الفاظ مستلة في أعلّبها من الأساطير القديمة، ومن الطبيعة من فضائها الخارجي
36. النقد الأدبي الحديث ص 70-71
37. أصول النقد الأدبي تأليف احمد الشائب ص 441-461 و النقد المنهجي عندالعرب الدكتور
محمدمند و ص 375-377
38. أصول النقد الأدبي ص 541
39. في النقد الأدبي للدكتور شوقي ضيف ص 31-33 و اصول النقد الأدبي ص 541-461
40. نفس المرجع ص 741-841
0 التعليقات :
إرسال تعليق